12 اغسطس 2018
موت وثيقة قرطاج.. والعقد الاجتماعي الجديد في تونس
دعا الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، الموقعين على وثيقة قرطاج للاجتماع في مناسبتين مع بداية السنة الجارية. في 5 يناير/ كانون الثاني الجاري، وفي 13 من الشهر نفسه، في محاولة يائسة للتشبث بخيار الوحدة الوطنية، وترميم التصدعات الطارئة على مسار الوثيقة. غير أن أحزابا سياسية عديدة موقعة على الوثيقة أصبحت ترى فيها شعارًا لم يعد يتلاءم مع متطلبات المرحلة التي تعيشها تونس.
ليس الشارع التونسي من فرض وثيقة قرطاج، بل هي جاءت نتيجة توافقات بين المجتمع السياسي والمنظمات الاجتماعية، وتضمنت ستة محاور مهمة: كسب الحرب على الإرهاب، تسريع نسق النمو والتشغيل، مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة الرشيدة، التحكم في التوازنات المالية ومواصلة تنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة، إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية، دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات. ويتفرع كل محور إلى عدة نقاط.
أسباب الانسحاب
كثر الحديث أخيرا في تونس عن وثيقة قرطاج، بوصفه حديثًا عن حكومة الوحدة الوطنية ومجموعة أهداف وبرامج تم الاتفاق عليها، ولم يتم الالتزام بها، لتنفذها حكومة يوسف الشاهد، الأمر الذي أطلق العنان لانسحاب أحزاب سياسية من وثيقة قرطاج، والتخلّي عن الالتزام بها، والتراجع عن دعمهم ومساندتهم لهذه الحكومة التي تجد نفسها في مواجهة تحديات مرحلة صعبة تسبق مواعيد انتخابية حاسمة. وأيضا في مواجهة أزمات مختلفة تهدّد السلم الاجتماعي، وكذلك في مواجهة معارضة قويت شوكتها بعد التحاق عدد من الأحزاب المنسحبة من اتفاق قرطاج بصفّها.
وانطلق القفز عن خيار الوحدة الوطنية مع انسحاب الحزب الجمهوري بزعامة عصام الشابي،
يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، ثم تلاه حزب آفاق تونس الذي أعلن في 16 ديسمبر/ كانون الأول الماضي انسحابه من وثيقة قرطاج، ودعا وزراءه في الحكومة إلى الانسحاب من مهامهم. فقد قال رئيس حزب آفاق تونس، ياسين إبراهيم، لـ"برنامج الماتينال"، على إذاعة "شمس إف إم": إنّ مبدأ الوحدة الوطنية "انتهى، منذ مدة، بالتحالف الاستراتيجي بين حركتي نداء تونس والنهضة، ثم بالتحاق الاتحاد الوطني الحر". وفي الأسبوع الماضي، أعلنت "حركة مشروع تونس" انسحابها من اتفاق قرطاج، وسحب دعمها الحكومة، وباتت الحزب الرابع في قائمة المنسحبين من وثيقة قرطاج، بعد انسحاب "حركة الشعب" ذات التوجه القومي. والحركة حزب سياسي منشق عن حزب نداء تونس، وتأسست يوم 20 مارس/ آذار 2016، وهي ممثلة برلمانيا بكتلة الحرة التي تضم حاليا 21 نائبا. ويتزعم الحركة أمينها العام محسن مرزوق، أحد مؤسسي حزب نداء تونس برئاسة الباجي قايد السبسي. ويرى محللون في تونس أن انسحاب الحركة لا يعدو أن يكون انسحابًا تكتيكيًا، للتمايز السياسي عن أحزاب الحكم في مرحلة أولى، ثم طرح نفسه بديلا سياسيا، انطلاقا من جبهة المعارضة "الآمنة" في علاقة بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
في نظر مراقبين عديدين، لم تكن الانسحابات من وثيقة قرطاج مفاجأة، لأن الوثيقة محكوم عليها بالفشل منذ البداية، لاعتبارات موضوعية، أهمّها عدم التجانس السياسي وتباين موازين القوى بين الأحزاب الموقعة على الوثيقة والمشكّلة للحكومة. إضافة إلى التصدّع في الحزام السياسي بشأن حكومة الوحدة الوطنية، والذي لم يكن أساسه الخلافات بشأن التوجّهات العامة للحكومة، أو التحفّظات على طريقة تسيير الدولة، ولو أن هذه العناوين حاضرة في خطابات المنسحبين، وإنما تصدّع الوحدة الوطنية، وما نتج عنه من انسحابات من الحكومة، تزامن مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية البلدية (مايو/ أيار 2018)، وأيضا التشريعية والرئاسية (2019)، وبداية تشكل مشهد سياسي وحزبي وتحالفات جديدة، مغايرة لما كانت عليه إبان ميلاد وثيقة قرطاج وخيار الوحدة الوطنية.
وجاءت الاحتجاجات الشعبية، أخيرا، الرافضة لخيارات قانون المالية، وما أحدثته من تململ واحتقان في تسريع خطوات بعض الأطراف السياسية، للتنصل من وثيقة قرطاج، واستغلال المناخ العام لتسجيل نقاط في سجل سباق الانتخابات الذي انطلق مبكرًا، لا سيما في ظل تشكل جبهة انتخابية جديدة من عشرة أحزاب سياسية موقعة على "وثيقة قرطاج"، لتكوين جبهة انتخابية بمناسبة الانتخابات البلدية المقبلة، منها أحزاب "مشروع تونس" و"المبادرة" و"المسار" و"الجمهوري" و"آفاق"، إذ التقت هذه الأحزاب للتنسيق في ما بينها حول المناخ الانتخابي، وتحسين ظروفه والمطالبة بالمصادقة على قانون الجماعات المحليّة.
الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد
تحتاج تونس اليوم إلى عقد اجتماعي جديد، أساسه التحرّر من التبعية للمؤسسات الدولية
المانحة، ولشركاء تونس من الدول الغربية، لأن التبعية قادت إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التونسية وفقدانها السيطرة على شروط إعادة بنائها، بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق. فنجاح أي حكومة وحدة وطنية في تونس يحتاج لبلورة استراتيجية وطنية لمعالجة الأزمات الرَّاهنة، وفي مُقدّمتها: التَّركيزُ على القطاعات الإنتاجيَّة، وعلى الزراعة التي تُغذي الصناعات الاستراتيجيَّة، وتعديل مؤسَّسات السياحة ومؤتمراتها، وتنمية الاستثمارات في الولايات الفقيرة والمحرومة تاريخيا من التنمية، وترميم الطُّرق والسِّكك الحديديَّة، والتزام حكومة الوحدة الوطنية بالحوكمة الرشيدة. ومن الضَّروريِّ أن تلتزمَ الحكومة بترشيد الثروات العامَّة، وتحسين الانتفاع بالقُدرات الذاتية للشعب، وضبط آليات الأسعار وموازين المدفوعات، والالتزام بالنُّظُم الأكثرِ شفافيةً، لمنعِ الفساد الإداريِّ والمصرفيِّ، وحسن إدارة الممتلكات المؤمَّنة (إن وجدت) وتطوير النُّظُم التكنولوجية، وإضفاء طابع اللامركزيَّة على الحُكم المحلي، وجعل السلطات الإقليميَّة أكثرَ خضوعًا للرّقابة والمحاسبة، لضمان نزاهتها، وحظر الفساد الأجنبيِّ الخارجي في الأسواق الوطنية.
ويتمثل العقد الاجتماعي الجديد في تونس في تحقيق انتظارات الشعب التونسي، عبر ميلاد حكومة وطنية تلتزم ببرنامج وطني، ينطلق من الأمور التالية:
الأول: تأسيس تنمية اقتصادية مستدامة في البلاد من نوع آخر مكان النظام الاقتصادي المهترئ والفاقد لكل صلاحية وشرعية، تنطلق من بناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني. ومن خلال هذا الخيار، لا يمكن التعويل على قوى السوق وآلياته في تحقيق هذا الهدف، حيث المطلوب هو التحرّر من القيود الرأسمالية العالمية، لأن منافعها تعود إلى الطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف، فتزيد القوي قوة، والغني غنىً، وتزيد الضعيف ضعفاً، والفقير فقراً. ويصح ذلك على العلاقات داخل الدولة، وفي العلاقات الدولية.
الثاني: الانطلاق من مفهوم الاعتماد على النفس، وإعادة الاعتبار إليه، وإعادته إلى النسق المجتمعي بدلاً من النطاق الفردي، من دون الانعزال، ومن دون الوقوع في فخ التبعية، فسياسات الحكومات التونسية المتعاقبة منذ 2011 توضع انطلاقا من تلبية شروط المؤسسات الدولية المانحة، وليس انطلاقاً من تحقيق انتظارات الشعب التونسي وأهداف الثورة، كما أن السياسات ترسم في ضوء تكريس الاعتماد على المعونات المالية والتكنولوجية الغربية، لا اعتماداً على تعبئة الموارد المحلية والادخار الوطني، واستعادة الأموال المنهوبة، وفرض تطبيق العدالة الجبائية ومحاربة الفساد. وبالتالي، لا تطرح سياسات حكومة الوحدة الوطنية المقبلة موضوع فك الأواصر مع نهج التبعية، من أجل وضع تونس على طريق التنمية الحقيقية، وإنما بهدف إيقاع البلاد في دائرة التبعية للمراكز الرأسمالية الغربية.
الثالث: القيام بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي ينطلق من سياسات التنمية الشاملة والمستدامة، وتحقيق هدف زيادة معدلات النمو الاقتصادي مع تحقيق عدالة التوزيع، والعدالة الاجتماعية، وحُسن توزيع الدخل والثروات، وترشيد كفاءة السياسات الاستثمارية، والتفاعل الإيجابي بين التوجه التنموي للدولة والمشروع الخاص، وتحقيق العلاقة الإيجابية بين فوائد السوق والتدخل الحكومي، وإدارة عملية التقدم التكنولوجي والمعرفة، بما في ذلك إصلاح التعليم، والتوجه على نحو عملي وفعال لمعالجة مشكلة الأمية والبطالة في المحافظات الفقيرة التي عانت من التهميش وغياب مشاريع التنمية، من أجل منع استقطاب الشباب المهمش والعاطل من العمل من التنظيمات الإرهابية.
الرابع: على الدولة التونسية أن تتدخل لبناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني، القادر وحده على تصحيح التوازنات المفقودة لمنوال تنمية تونسي في أزمة. ومن هذه التوازنات المفقودة في تونس هيمنة نمط (رأسمالي) وحيد على المؤسسة، والموجه نحو إيجاد قيمة لفائدة الطبقة
الرأسمالية الطفيلية ورجال الأعمال الفاسدين، والتوسع الهائل لنطاق السوق والمنافسة لمصلحة أقلية، وخصوصًا على حساب الخدمات ذات المصلحة العامة، وتقلص التضامن الجماعي والديمقراطي في مقابل التضامن الإنساني والخيري (غالبا ما تحكمه شبكات محسوبية ذات طابع ديني)، ولا سيما في تونس خلال فترة حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي، وتفاقم ظواهر الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي والتهميش الثقافي في الولايات التونسية الداخلية، والواقعة على الحدود مع الجارتين، الجزائر وليبيا، وتفاقم اللامساواة داخل المؤسسة، وبين المواطنين، وبين الجهات، وبين الولايات الداخلية والولايات الساحلية المطلة على البحر، والمقاربة الضيقة لمعنى الثروة والرفاه التي انحصرت في البعد الاقتصادي فحسب، وتجاهلت البعد الاجتماعي والبيئي، إلى جانب رؤية للدولة الاجتماعية، مقتصرة على دور الترميم وتخفيف الصدمات، متجاهلة دورها في الوقاية والاستثمار الاجتماعي، علاوة على حرمان المواطنين من المشاركة النشطة في اتخاذ القرارات الاقتصادية المؤثرة في حياتهم، وحياة أجيالهم المقبلة، والحفاظ على التنمية المستدامة واحترام توازناتها، وتطوير قاعدة الموارد الطبيعية، وخدمة الصالح العام، وحصر المواطنين في دور المستهلكين أو المنتجين لمجتمع السوق.
الخامس: إقامة منظومة مكافحة الفساد في إطار استراتيجية وطنية عامة ومتكاملة، بالعمل على ملاءمة القوانين التونسية مع أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ولا سيما تجريم "الإثراء غير المشروع"، وإقرار تدابير "حماية الشهود والمبلغين"، وتطوير آليات متابعة ثروات المسؤولين السياسيين ورجال الأعمال، كالتصريح بالمكتسبات، ومكافحة التهرب الضريبي في انخفاض الإيرادات العامة للدولة التونسية، خصوصًا أن هناك عوامل قائمة أدت إلى توسيع درجة اختراق الفساد للنظام الضريبي وتعميقه، فتونس لا تتمتع بمصادر "ريعية"، متمثلة في عوائد صادرات النفط والغاز، وكذلك مواد أولية ومعدنية أخرى غالبا. لهذا السبب، تصبح الضرائب تشكل أهم مصدر تمويل لميزانياتها العامة.
خاتمة
في ظل الأمل المهدور من وثيقة قرطاج، على القوى السياسية التونسية أن تجتهد من أجل بلورة عقد اجتماعي جديد للبلاد، أساسه التحرّر الحقيقي من عقلية الدولة الغنائمية (لا تزال الأحزاب الحاكمة تعتبر الدولة في نظرها دولة الغنيمة)، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، أي دولة القانون، بما تتضمنه دولة المؤسسات ومعها إرساء التنمية الإنسانية المستدامة، وهي في حقيقتها التاريخية تنمية شاملة تشمل الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا سيما أن الهدف الأسمى للتنمية هو رفع مستوى حياة المواطنين، والحدّ من فجوة الثروة والدخل بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وبين مختلف الجهات والمناطق داخل البلد الواحد، وتحسين مستوى المعيشة والحياة في البلاد.
ليس الشارع التونسي من فرض وثيقة قرطاج، بل هي جاءت نتيجة توافقات بين المجتمع السياسي والمنظمات الاجتماعية، وتضمنت ستة محاور مهمة: كسب الحرب على الإرهاب، تسريع نسق النمو والتشغيل، مقاومة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة الرشيدة، التحكم في التوازنات المالية ومواصلة تنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة، إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية، دعم نجاعة العمل الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات. ويتفرع كل محور إلى عدة نقاط.
أسباب الانسحاب
كثر الحديث أخيرا في تونس عن وثيقة قرطاج، بوصفه حديثًا عن حكومة الوحدة الوطنية ومجموعة أهداف وبرامج تم الاتفاق عليها، ولم يتم الالتزام بها، لتنفذها حكومة يوسف الشاهد، الأمر الذي أطلق العنان لانسحاب أحزاب سياسية من وثيقة قرطاج، والتخلّي عن الالتزام بها، والتراجع عن دعمهم ومساندتهم لهذه الحكومة التي تجد نفسها في مواجهة تحديات مرحلة صعبة تسبق مواعيد انتخابية حاسمة. وأيضا في مواجهة أزمات مختلفة تهدّد السلم الاجتماعي، وكذلك في مواجهة معارضة قويت شوكتها بعد التحاق عدد من الأحزاب المنسحبة من اتفاق قرطاج بصفّها.
وانطلق القفز عن خيار الوحدة الوطنية مع انسحاب الحزب الجمهوري بزعامة عصام الشابي،
في نظر مراقبين عديدين، لم تكن الانسحابات من وثيقة قرطاج مفاجأة، لأن الوثيقة محكوم عليها بالفشل منذ البداية، لاعتبارات موضوعية، أهمّها عدم التجانس السياسي وتباين موازين القوى بين الأحزاب الموقعة على الوثيقة والمشكّلة للحكومة. إضافة إلى التصدّع في الحزام السياسي بشأن حكومة الوحدة الوطنية، والذي لم يكن أساسه الخلافات بشأن التوجّهات العامة للحكومة، أو التحفّظات على طريقة تسيير الدولة، ولو أن هذه العناوين حاضرة في خطابات المنسحبين، وإنما تصدّع الوحدة الوطنية، وما نتج عنه من انسحابات من الحكومة، تزامن مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية البلدية (مايو/ أيار 2018)، وأيضا التشريعية والرئاسية (2019)، وبداية تشكل مشهد سياسي وحزبي وتحالفات جديدة، مغايرة لما كانت عليه إبان ميلاد وثيقة قرطاج وخيار الوحدة الوطنية.
وجاءت الاحتجاجات الشعبية، أخيرا، الرافضة لخيارات قانون المالية، وما أحدثته من تململ واحتقان في تسريع خطوات بعض الأطراف السياسية، للتنصل من وثيقة قرطاج، واستغلال المناخ العام لتسجيل نقاط في سجل سباق الانتخابات الذي انطلق مبكرًا، لا سيما في ظل تشكل جبهة انتخابية جديدة من عشرة أحزاب سياسية موقعة على "وثيقة قرطاج"، لتكوين جبهة انتخابية بمناسبة الانتخابات البلدية المقبلة، منها أحزاب "مشروع تونس" و"المبادرة" و"المسار" و"الجمهوري" و"آفاق"، إذ التقت هذه الأحزاب للتنسيق في ما بينها حول المناخ الانتخابي، وتحسين ظروفه والمطالبة بالمصادقة على قانون الجماعات المحليّة.
الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد
تحتاج تونس اليوم إلى عقد اجتماعي جديد، أساسه التحرّر من التبعية للمؤسسات الدولية
ويتمثل العقد الاجتماعي الجديد في تونس في تحقيق انتظارات الشعب التونسي، عبر ميلاد حكومة وطنية تلتزم ببرنامج وطني، ينطلق من الأمور التالية:
الأول: تأسيس تنمية اقتصادية مستدامة في البلاد من نوع آخر مكان النظام الاقتصادي المهترئ والفاقد لكل صلاحية وشرعية، تنطلق من بناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني. ومن خلال هذا الخيار، لا يمكن التعويل على قوى السوق وآلياته في تحقيق هذا الهدف، حيث المطلوب هو التحرّر من القيود الرأسمالية العالمية، لأن منافعها تعود إلى الطرف الأقوى على حساب الطرف الضعيف، فتزيد القوي قوة، والغني غنىً، وتزيد الضعيف ضعفاً، والفقير فقراً. ويصح ذلك على العلاقات داخل الدولة، وفي العلاقات الدولية.
الثاني: الانطلاق من مفهوم الاعتماد على النفس، وإعادة الاعتبار إليه، وإعادته إلى النسق المجتمعي بدلاً من النطاق الفردي، من دون الانعزال، ومن دون الوقوع في فخ التبعية، فسياسات الحكومات التونسية المتعاقبة منذ 2011 توضع انطلاقا من تلبية شروط المؤسسات الدولية المانحة، وليس انطلاقاً من تحقيق انتظارات الشعب التونسي وأهداف الثورة، كما أن السياسات ترسم في ضوء تكريس الاعتماد على المعونات المالية والتكنولوجية الغربية، لا اعتماداً على تعبئة الموارد المحلية والادخار الوطني، واستعادة الأموال المنهوبة، وفرض تطبيق العدالة الجبائية ومحاربة الفساد. وبالتالي، لا تطرح سياسات حكومة الوحدة الوطنية المقبلة موضوع فك الأواصر مع نهج التبعية، من أجل وضع تونس على طريق التنمية الحقيقية، وإنما بهدف إيقاع البلاد في دائرة التبعية للمراكز الرأسمالية الغربية.
الثالث: القيام بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي ينطلق من سياسات التنمية الشاملة والمستدامة، وتحقيق هدف زيادة معدلات النمو الاقتصادي مع تحقيق عدالة التوزيع، والعدالة الاجتماعية، وحُسن توزيع الدخل والثروات، وترشيد كفاءة السياسات الاستثمارية، والتفاعل الإيجابي بين التوجه التنموي للدولة والمشروع الخاص، وتحقيق العلاقة الإيجابية بين فوائد السوق والتدخل الحكومي، وإدارة عملية التقدم التكنولوجي والمعرفة، بما في ذلك إصلاح التعليم، والتوجه على نحو عملي وفعال لمعالجة مشكلة الأمية والبطالة في المحافظات الفقيرة التي عانت من التهميش وغياب مشاريع التنمية، من أجل منع استقطاب الشباب المهمش والعاطل من العمل من التنظيمات الإرهابية.
الرابع: على الدولة التونسية أن تتدخل لبناء الاقتصاد الاجتماعي التضامني، القادر وحده على تصحيح التوازنات المفقودة لمنوال تنمية تونسي في أزمة. ومن هذه التوازنات المفقودة في تونس هيمنة نمط (رأسمالي) وحيد على المؤسسة، والموجه نحو إيجاد قيمة لفائدة الطبقة
الخامس: إقامة منظومة مكافحة الفساد في إطار استراتيجية وطنية عامة ومتكاملة، بالعمل على ملاءمة القوانين التونسية مع أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ولا سيما تجريم "الإثراء غير المشروع"، وإقرار تدابير "حماية الشهود والمبلغين"، وتطوير آليات متابعة ثروات المسؤولين السياسيين ورجال الأعمال، كالتصريح بالمكتسبات، ومكافحة التهرب الضريبي في انخفاض الإيرادات العامة للدولة التونسية، خصوصًا أن هناك عوامل قائمة أدت إلى توسيع درجة اختراق الفساد للنظام الضريبي وتعميقه، فتونس لا تتمتع بمصادر "ريعية"، متمثلة في عوائد صادرات النفط والغاز، وكذلك مواد أولية ومعدنية أخرى غالبا. لهذا السبب، تصبح الضرائب تشكل أهم مصدر تمويل لميزانياتها العامة.
خاتمة
في ظل الأمل المهدور من وثيقة قرطاج، على القوى السياسية التونسية أن تجتهد من أجل بلورة عقد اجتماعي جديد للبلاد، أساسه التحرّر الحقيقي من عقلية الدولة الغنائمية (لا تزال الأحزاب الحاكمة تعتبر الدولة في نظرها دولة الغنيمة)، وإعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، أي دولة القانون، بما تتضمنه دولة المؤسسات ومعها إرساء التنمية الإنسانية المستدامة، وهي في حقيقتها التاريخية تنمية شاملة تشمل الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا سيما أن الهدف الأسمى للتنمية هو رفع مستوى حياة المواطنين، والحدّ من فجوة الثروة والدخل بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وبين مختلف الجهات والمناطق داخل البلد الواحد، وتحسين مستوى المعيشة والحياة في البلاد.