بالكاد نسمع اليوم بـ "قوارب الموت" المغربية. فقد تراجعت معدلات الهجرة السرية انطلاقا من مدينة طنجة، ومحيطها، حيث تُرى الأراضي الاسبانية بالعين المجردة، إلى مستويات قياسية في السنين العشر الأخيرة، إذ تقول الأرقام الرسمية المغربية إن التراجع بلغ نحو 95 في المئة عما كان عليه في التسعينات. السبب واضح: تشديد السلطات الأمنية قبضتها على منافذ الهجرة السرية وضبط حدودها التي يتدفق منها المهاجرون الأفارقة، وسنّ سياسة لاستيعاب من يدخل منهم الاراضي المغربية بدل تركه يعبر البحر أو اعادته من حيث جاء.
جنَّة المهربين
ضَبْطُ السلطات المغربية حدودها وشواطئها في وجه موجات الهجرة التي تتجر بأموال وأحلام، وأرواح، بشر هاربين من جحيم بلدانهم السياسي أو المعيشي قابله انفتاح أطول شواطىء لدولةٍ على الضفة الشرقية للمتوسط أمام مافيات التهريب. فقد أدت الاطاحة بنظام معمر القذافي (الذي كان يتلاعب، أصلاً، بورقة الهجرة مع أوروبا) إلى تحوّل المرافىء الليبية الى نقاط عبور ساخنة في اتجاه الشواطىء الايطالية، أقرب أرض أوروبية الى ليبيا. فلسوء حظ الليبيين، وحسن حظ مافيات الهجرة السرية، لم تقم حكومة مركزية في هذا البلد العربي الذي يشهد تطاحناً أهلياً على السلطة، ما يجعل مراقبة شواطئه وحدوده البرية مهمة مستحيلة، نظراً لغياب القوى الحكومية القادرة على القيام بهذه المهمة.
في المقابل حاولت الدول الاوروبية أن تتوافق على سياسة موحدة في مواجهة موجات الهجرة التي ينتهي نصفها ( وهذا هو الاسوأ) طعماً لأسماك البحر الأبيض المتوسط، ولكن من دون نجاح يذكر. ما يهم القوى الاوروبية وقف الهجرة وليس معالجة أسبابها، ما يجعل أي سياسة، من هذا الطراز، عديمة الجدوى لأن مافيات الاتجار بالبشر سوف تبتدع طرقاً جديدة لـ "تجارتها" الشيطانية في ظل بقاء الأسباب التي تؤدي بالبشر الى رمي أنفسهم الى التهلكة بدل البقاء في بلدانهم.
ايطاليا هي أكثر الدول تلقياً لموجات الهجرة التي لا تتوقف، لذلك أطلقت عملية حكومية باسم "بحرنا" للتعامل مع هذه الظاهرة غير المسبوقة. أرقام عملية "بحرنا" تشير إلى أنها تعاملت في نحو عام من انطلاقها مع ما يقرب من 140 ألف مهاجر سريّ من "ركاب" قوارب الموت. أما المفوضية العليا للاجئين التابعة للامم المتحدة فقد أحصت عبور نحو 165 ألف مهاجر لمياه المتوسط في عام 2014 مقابل 60 ألفاً للعام السابق عليه.
السوريون في الطليعة
تقول الاحصاءات الصحافية أن السوريين يأتون في طليعة الذين يرمون بأنفسهم إلى قوارب الموت، يليهم الافارقة من بلدان مختلفة (نجيريا، غانا، الصومال، اريتريا، السنغال) وفي المرتبة الثالثة يأتي الفلسطينيون الغزيون، تحديداً. تترواح الأموال التي يدفعها هؤلاء الذين يعرفون أن رحلتهم الى "الجنة" الأوروبية قد تنتهي بموتهم، نحو 3000 آلاف يورو، وأحيانا قد يصل "رسم" الرحلة المميتة الى 10 آلاف يورو حسبما أفادت تقاير للشرطة الاسبانية التي فككت، مؤخرا، شبكة للاتجار بالبشر قوامها سوريون يحملون جنسيات أوروبية غربية وشرقية. الغريب أن الشرطة الاسبانية عثرت لديهم، فضلا عن كميات كبيرة من الأموال وأجهزة الكومبيوتر، جوازت سفر اسرائيلية مزورة!
ربما يتذكر قراء صحفية "الغارديان" تحقيقها عن هذه "التجارة" وحوارها مع أحد "ملوكها" وهو مهندس مدني سوري، يقيم في مصر، "مختص" بهجرة السوريين الى أوروبا يدعى "أبو حمادة"، الذي قال للصحيفة البريطانية إنه جنى من عمله هذا، في نصف عام، نحو مليون ونصف المليون دولار! لكن "أبو حمادة" لا يعمل وحده على الأراضي المصرية بل لديه شركاء مصريون، وهؤلاء هم الذين يتولون نقل طالبي الهجرة الى الشواطىء الليبية، ومن هناك الى جزيرة لومبيدوزا الايطالية.
قتل في عرض البحر
إذا لم تُغْرق أمواج البحر قواب المهربين ومراكبهم التي لا تصلح لعبور البحر فإن صراعات المهربين في ما بينهم قد تتكفل بالكارثة. يروي أحد الناجين من كارثة غرق مركب في عرض البحر لـ "الجزيرة" كيف أن المهربين نقلوا "حمولتهم" إلى سفينة أصغر في عرض البحر ثم قاموا بصدم سفينة المهاجرين المكتظة بالنساء والاطفال والرجال المرعوبين، إلى أن غرقت. فقد هذا الناجي، وهو من مدينة غزة، كل أفراد عائلته في الكارثة، لكنه لا ينسى الاسم المصري لصاحب السفينة التي أغرقت مركبهم، وضحكات المهربين وهم يرون "حمولتهم" البشرية البائسة وهي تغرق.. مع زملائهم المهربين الآخرين!
مثل هذا حصل قبل بضعة أيام عندما نشب خلاف بين مهاجرين إفريقيين مسلمين ومسيحيين فقام خمسة عشر مهاجراً من الافارقة المسلمين برمي 12 مهاجراً من زملائهم المسيحيين في البحر، وذلك حسب تقرير للشرطة الايطالية التي استجوبت الناجين بعد وصلهم الى ساحل صقلية، ولم يعرف السبب المباشر لهذا العمل الوحشي غير أن المحققيين الايطاليين يعتقدون أنه امتداد لصراعات دينية في بلادهم. وهذه حسب عامل ايطالي في الاغاثة "مأساة في المأساة".
بعد هذا يتساءل المرء: ما الحل؟ الجواب الذي يخطر في البال ليس من النوع الامني بل من النوع التنموي الاسترايجي: التعامل مع الأسباب السياسية والاقتصادية التي أدت الى تفاقم هذه الظاهرة المحزنة، بكل المقاييس. والغرب الذي خرَّب حياة هؤلاء البشر،في بلادهم، لن يتمكن، أبداً، من رفع أسوار صينية على شواطئه وحدوده. الحلُّ ليس على الشواطىء الأوروبية بل في الأماكن المخرَّبة التي فرَّ منها هؤلاء الناس.