مواطن يليق به الموت

12 مايو 2015

كنت أريد لهذا الجسد المهترئ أن يتمرد على عجزه(Getty)

+ الخط -
مع اقتراب موعد إعدامي، لم أتخيل أن جسدي سيغدو مهماً إلى هذا الحد، أنا الذي لم يجرؤ على زيارة طبيب طوال حياته، لأنه لا يملك ترف الوقت، للتمطّي على الأسرّة الوثيرة والأغطية البيضاء، والتبسّم بمكر للممرضة المرتبكة، وهي تهيء إبرة الحقن، مثلما لا يملك ترف الجيوب المندلقة على الرحلة الطبية، منذ تقطيبة حاجبي الطبيب، وهو يتفحص دقات القلب، وليس انتهاء بآخر حبة دواء، تسحب معها بقايا الأنفاس والملاليم في الجيوب الخاوية.

لم أصدق، يوماً، أنني سأحظى بمثل هذا الدلال الطبي المفرط، من أطباء اختصاص عدة، واحد للقلب، وآخر للعين، وثالث للكبد، ورابع للصحة العقلية، وهذا الأخير حصراً، كنت أمقته، لأنه كان ينقب عن رجاحة عقلي، أنا المواطن الذي أعفاني زعمائي من العقل كلياً، حين استأصلوه لحظة ولادتي.

وحين كنت أسأل عن كل هذا الاهتمام المباغت بجسدٍ لم يكن منذوراً لغير الأرصفة والركل والصفع، وتجريب آخر مبتكرات السياط والصعقات الكهربائية، كان يقال لي، إن المحكوم بالإعدام ينبغي أن يصعد إلى حبل المشنقة مكتملاً، أي بكامل قيافته الصحية والبدنية والعقلية، ينبغي أن يكون جسداً سليماً، لا يشوبه زكام ولا سرطان ولا حمى قلاعية ولا إنفلونزا بعير، انسجاماً مع المعايير الدولية في هذا الشأن.

لا أنكر أن الاستغراب بلغ بي حداً فاق حدود أرصفتي وزقاقي، إذ ما مغزى أن يعدم المرء مكتملاً صحياً وبدنياً وعقلياً، ما دامت النهاية وضع حدّ لكل هذا الكمال الزائف، أم أن هناك فرقاً بين ميت سقيم وآخر صحيح؟

عموماً، الحكاية كلها بدأت بحادثة غريبةٍ، لم أتوقع أن تتصاعد درامياً إلى هذه الذروة المأساوية، فبعد أن أقعدتني حزمة أمراض مزمنة عن العمل، مثل قرحة المعدة والأمعاء، والكبد الوبائي، والنكاف، والبهاق، جراء تفاقمها، وعجزي عن توفير تكاليف العلاج، حملني الجيران إلى مركز صحي حكومي، وهناك، عقب انتظار طويل وممضّ، حان دوري، لأفاجأ بالطبيب، بعد أن رأى جثتي يقول للجيران: "خذوه ليموت في بيته، فلا فائدة ترجى منه"، ولا أدري، حينها، كيف واتتني عزيمة مباغتة، لم أعهدها في جسدي من قبل، فوجدتني أنهض كأسد هصور، وأنشب أظافري في عنق الطبيب، وكأنني أثأر لعمر كامل مهدور على عتبة حياة عربية، لم تتكرم، يوماً، بفتح أبوابها لهذا الكائن البائس، ولم يستطع الجيران والعاملون والمراجعون تخليص الطبيب من أظافري، إلا بعد أن غدا جثة.

خلاصة الرواية، أنه حكم علي بالإعدام على عجل، لأنني لم أستطع توكيل محام يجيد العبث بمفردات القانون، ووجدت نفسي في زنزانة انتظار الموت المرتقب، غير أن حزمة أمراضي المزمنة شفعت بتأخير التنفيذ، وأعترف بأنني أجهدت الأطباء، واستنزفت أعصابهم تماماً؛ إذ كلما خلصوني من مرض، ظهر آخر، لم يكن بادياً لتشخيصاتهم قبل ذلك.

لا أذيع سراً إذا قلت إنني كنت مبتهجاً بهذا المسلسل العلاجي الذي خضعت له في الزنزانة، فللمرة الأولى في حياتي، شعرت بأنني أريد أن أغتنم فرص العلاج كاملة، لأنها فرص لا تتكرر. كنت أريد لهذا الجسد المهترئ أن يتمرد على عجزه وانسحاقه على أرصفة الوجع والكبت والحرمان، بل بلغ تحسني العقلي حدّ أني رحت أنادي بسقوط الأنظمة العربية جهاراً، وعلى مسمع الحرس والضباط، من دون أن يجرؤ أحد على قمعي.

غير أن ما فاجأ سلطات السجن والأطباء، وبعد أن ظنوا أن مسلسل علاجي الطويل قد بلغ نهايته، هو مطالبتي بالعلاج من العقم الذي لازمني، منذ تلقيت ضربة سوط، ذات مرة، على خصيتيّ من أحد الجلادين، وحين سألوني عن فائدة علاجي، من هذا المرض تحديداً، أنا المقبل على الموت، أجبتهم بأن ذلك من حقي وكفى.

المهم، وبعد أن وصل مسلسل علاجي إلى حلقته الأخيرة، بتخلصي من مرض العقم، صعدت درج المشنقة مواطناً، كامل الحقوق البدنية والعقلية، مواطناً يليق به الموت.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.