في مطلع تسعينيات القرن الماضي، طبقت مصر برنامجاً للإصلاح الاقتصادي، بالاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين، كان من أهم سماته الاهتمام بالأرقام، دون ما تعكسه من واقع اقتصادي واجتماعي سلبي.
ففي ذلك الوقت تم التركيز على خفض عجز الموازنة، وتقليل معدلات التضخم، ولم يتم الالتفات وقتئذ إلى الآثار الاجتماعية السلبية لتطبيق برنامج الاصلاح في اتساع دائرة الفقر والبطالة، ولا تلك المتعلقة بالنواحي الاقتصادية، التي أدت إلى حدوث انكماش كبير في الطلب الكلي.
والمطلع على الأرقام الواردة في بيان وزارة المال عن مشروع موازنة العام المالي الجديد 2014/2015، يدرك هذه الحقيقة، حيث أصبح المعيار الأبرز هو التركيز على خفض عجز الموازنة، من خلال تقليل دعم الطاقة بنحو 30 مليار جنيه مصري (4.2 مليارات دولار)، في الوقت الذي تمت فيه زيادات لقطاعات التعليم والصحة بنسبة تصل لنحو 11.2%، وهي تقريباً، حجم الزيادة السنوية في الأجور والمرتبات، دون إحداث تطور في الاستثمارات بالقطاعين.
وفي إطار البعد عن تكريس عجز الموازنة، لجأ صانع السياسة المالية إلى تمويل مشروعات مهمة من خلال مصادر تمويلية خارج الموازنة، عبر مشروعات المشاركة بين القطاعين العام والخاص، أو ما يعرف اختصاراً بـ(PPP).
وما ذكره بيان وزارة المال الصادر الإثنين الماضي بالموازنة العامة للعام المالي الجديد، عن مشروعات تحت الطرح، بناء ألف مدرسة، على مدار 5 سنوات، بواقع 200 مدرسة كل عام يندرج ضمن هذه المشروعات.
وكذلك ذكر البيان أن هناك مشروعات أخرى ذات طبيعة استثمارية، منها مشروعات الإسكان الاجتماعي، وأن الحكومة تخطط لبناء مليون وحدة سكانية لمحدودي الدخل، على مدار خمس سنوات.
والسؤال هنا، هل يمكن لمشروعات بهذه الأهمية، مثل الإسكان أو المدارس أن يدار التخطيط لها في إطار سيناريو واحد، ماذا لو أن مشاركة القطاع الخاص كانت دون المستوى المطلوب، لإنجاز 200 مدرسة، ونحو 200 ألف وحدة سكانية كل سنة؟
فوجه الشبه بين ما هو مطروح في موازنة 2014/2015، وما تم في عقد التسعينيات، هو الإفراط في الثقة بالقطاع الخاص، الذي اعتمد المضاربة والتجارة، وابتعد عن الصناعة والإنتاج.
فالحلقة المفقودة في برنامج التسعينيات، هي أن الإصلاح الهيكلي في الاقتصاد المصري، والمتعلق بإزالة معوقات الإنتاج، ودفع القطاع الإنتاجي ليستفيد مما تم في القطاعين المالي والنقدي، لم يتحقق.
وكانت النتيجة مزيداً من مشكلات البطالة والفقر، وتحمّل ثمن أجندة الإصلاح المالي والنقدي، دون إتاحة المزيد من فرص العمل لاستقطاب العاطلين، أو الداخلين الجدد لسوق العمل، أو تحقيق طفرة في الصادرات، تؤدي إلى تغيير الوجه الكالح لعجز الميزان التجاري، أو زيادة مساهمة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي، أو وجود قيمة مضافة ملموسة في الصناعات المحلية.
منهج قديم
في واحدة من حالات تجميل وجه الحكومة عبر بيانات الدعم، يذكر مشروع الموازنة للعام المالي الجديد أن الدعم المخصص لرغيف الخبز بلغ 24 مليار جنيه مصري (2.8 مليار دولار)، مقارنة بنحو 6 مليارات جنيه فقط في عام 2006/2007.
والسؤال هنا: كيف أعطى صناع هذا البيان لأنفسهم الحق في المقارنة بين أرقام الدعم في عام 2014/2015، وعام 2006/2007؟.
هل اعتبرت وزارة المال أن عام 2006/2007 سنة أساس؟ وحتى هذا غير صحيح، لأن عام الأساس عادة ما يكون في إطار خطة خمسية على الأكثر، وبالتالي إذا صح منهج المقارنة فكان عليه أن يقارن ببيانات عام 2011/2012، وبذلك يكون هناك علاقة أو رابط، منطقي، بكون هذا العام بداية خطة خمسية جديدة، أو أنه يؤرخ لمرحلة جديدة بعد ثورة 25 يناير.
ولكنه منهج حكومات الرئيس المخلوع حسني مبارك في عرض البيانات، حيث كانت تتم مقارنة أي عام بعام 1980/1982، متناسين معدلات التضخم، وباقي المتغيرات الاقتصادية الأخرى، وكان الأجدر أن تقارن الوزارة مخصصات دعم الخبز بمخصصات العام المالي الحالي، والذي ينتهي في 30 يونيو/حزيران المقبل.
وحتى لا يصل المواطن لرقم حقيقي لتطور دعم رغيف الخبز، تم ذكر بيانات دعم السلع التموينية إجمالاً، دون التفصيل الذي ذكره بيان الوزارة عن دعم الخبز مفرداً، في بيانات العام المالي الحالي 2013/2014.
متغيرات مهملة
في الوقت الذي ذكر فيه مشروع الموازنة للعام الجديد، أن مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، قد زادت بنحو 39 مليار جنيه، لتصل إلى 253 مليار جنيه، بعدما كانت 212 ملياراً في العام المالي 2013/2014، نجد أن هناك تناسياً لمعضلة التضخم في واقع المجتمع المصري.
فإذا كانت آلية الدعم النقدي المقترح تطبيقها، سوف تتيح للأسر الأشد فقراً، دخلاً يراوح ما بين 300 و500 جنيه مصري شهرياً، فإننا بصدد حجم إنفاق يومي للفرد في أسرة من 4 أفراد، وتحصل على الحد الأقصى 500 جنيه شهرياً، نحو 4 جنيهات مصرية يومياً، أي بحدود نصف دولار، وهذا الإنفاق أقل من نصف المعدل العالمي للفقر المدقع وهو 1.25 دولار يومياً.
ونحن نذكر هذه الأرقام، من أجل أن يصل إلى صناع السياسة المالية، أنّ ما سيلاقيه محدودو الدخل نتيجة خفض دعم الطاقة، وتحريك أسعار الطاقة بشكل تدريجي، خلال المرحلة المقبلة، سيكون ثمناً غالياً لا يعادل أبداً الدعم النقدي، الذي تفتخر الحكومة بتطبيقه في مشروع موازنتها الجديد.
فأي تحريك لأسعار الطاقة، وبخاصة تلك المتعلقة بأسعار المواصلات والنقل، سيكون لها أثر تضخميّ في الحال، ليشمل كل السلع والخدمات.
تواضع معدّل النمو
ما تم ذكره في إطار بيان وزارة المال عن مشروع الموازنة للعام المالي الجديد، أنّ معدل النمو المستهدف بحدود 3.2%، وهنا لابد من أن نذكر العلاقة المتعارف عليها في هذا الشأن، بوجوب أن تكون معدلات النمو الاقتصادي ثلاثة أضعاف معدلات النمو السكاني، وحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن معدلات الزيادة السكانية بحدود 2.5% في عام 2013، أي أن معدل النمو المرتقب يقل عن ضعف معدل النمو في الزيادة السكانية.
وبالتالي فمن المنتظر استمرار أعداد البطالة في حدودها المرتفعة، والتي وصلت إلى 13.5% من قوة العمل، وبخاصة في ظل تدفق الداخلين الجدد لسوق العمل، وما يتطلبه ذلك من ضرورة تلبية احتياجات اقتصادية واجتماعية لهذه الشريحة، من الحصول على فرصة عمل مستقرة، والتأسيس لبناء أسرة جديدة.
ومما يثير المخاوف حول طبيعة نمو الناتج المرتقب، أن غالبية المبالغ المخصصة للاستثمارات العامة، والمقدرة بنحو 62 مليار جنيه مصري، ستكون في إطار مشروعات البنية الأساسية والمشروعات الخدمية، وطبيعة مشروعات البنية الأساسية أنها تخلق فرص عمل وقتية، على عكس الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، التي توفر فرص عمل تتسم بالاستدامة والاستقرار.
المسكوت عنه
لم يتطرق مشروع الموازنة للعام المالي الجديد إلى مجموعة من القضايا المهمة في هيكل الموازنة العامة، منها:
- أولاً، غياب الحديث عن برنامج زمني يمكن محاسبة الحكومة عليه، في ما يتعلق بإدارة الدين العام، والوصول به إلى المعدلات المتعارف عليها عالمياً، بألا يزيد على 60% من حجم الناتج المحلي، في حين أن وضع الدين العام (داخلي + خارجي) حالياً يتجاوز نسبة 100% من قيمة الناتج المحلي.
وكل ما ذكره بيان وزارة المال عن مشروع الموازنة للعام المالي الجديد 2015-2014، هو توجه الحكومة لتقليص أعباء الدين وتأثيره على عجز الموازنة، لكن ما هي الآليات، ما هي المستهدفات؟ لم يتم التطرق إليها.
- ثانياً: ظلت الصناديق الخاصة، بمواردها وأرصدتها التراكمية، لغزاً أمام المجتمع المصري منذ عام 2006، ولم يتخذ أي إجراء ليتيح مزيداً من الشفافية حول هذه الصناديق، وكيفية التصرف في أموالها، ولا عن طريق التصرف فيها خلال المرحلة المقبلة.
- ثالثاً: من خلال الاطلاع على ما ورد من بيانات عن مشروع الموازنة، نجد أن هناك إجراءات مرحلية، تتعلق بإعادة هيكلة الدعم، قد تصل لأربع سنوات، وكذلك بيان وزارة المال الحديث عن إعادة هيكلة الأجور، وأن قيمتها تجاوزت الحدود الآمنة، وبالتالي فهناك تصور ما لإصلاح هيكل الأجور.
ويستلزم ذلك توضيحاً حول ماذا سيعود على المواطن بعد تنفيذ هذه الإصلاحات، والتي يقدّر لها أن تتجاوز أربع سنوات، وما هو مصير متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، وما هو حظه من الرعاية الاجتماعية، على أن يكون ذلك بعيداً عن العبارات الإنشائية، ومرتبطاً بمستهدفات رقمية، يمكن من خلالها محاسبة الحكومة برلمانياً وشعبياً.
كان التعليق السائد في المنتديات العلمية والسياسية إبان حكومات مبارك المختلفة، التي كانت تتباهى بتحقيق نجاحات في بعض المؤشرات الاقتصادية المالية والنقدية، أن المواطن لن يأكل مؤشرات زيادة معدل النمو، أو خفض عجز الموازنة، ولا استقرار سعر الصرف، وخلافه، ولكنه يريد أن يجد أثراً لهذه الأمور في حياته المعيشية، حيث كانت العلاقة عكسية، فالتقارير الدولية والقطرية تشير إلى تحسن المؤشرات الاقتصادية، في حين كان المواطن يعاني من معضلات البطالة والتضخم، وجعلته يخرج في 25 يناير، ليطالب بشعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".