موازنات عامة والماغنا كارتا

10 يناير 2019
السودانيون يتظاهرون بعد ارتفاع الأسعار (تويتر)
+ الخط -
الموازنات العامة للدول العربية مهمة جداً لاقتصاداتها، وقد ارتبطت فعاليات اقتصادية واجتماعية وخدمية كثيرة بإنفاق الحكومات. وفي دول الخليج تحديداً، ما زال الإنفاق العام هو المحرك الأساسي. وإذا انقطع هذا الإنفاق أو تأخر، ترى الأسواق مرتبكة، ويؤدي التخلف عن سداد فواتير الحكومة للقطاع الخاص إلى إرباك الاقتصاد بأكمله.

وفي العام 2018، تُظهِر الإحصاءات الدولية أن حجم موازنة الولايات المتحدة قد وصل إلى 6.8 تريليونات دولار، والصين إلى 8.3 تريليونات دولار، بينما جاءت المملكة العربية السعودية في الرقم 15 في الترتيب الدولي بمقدار 295 مليار دولار، متفوقة على روسيا والسويد وبلجيكا والمكسيك وسويسرا وتركيا، وحوالي ثلاثة أضعاف موازنة إسرائيل.

أما الدولة الثانية عربياً فهي الإمارات بموازنة 113 مليار دولار واحتلت المرتبة السابعة والثلاثين دولياً. والدولة الرابعة عربياً هي الكويت بمقدار 61 مليار دولار، وقطر في المرتبة الخامسة عربياً بمقدار 55 ملياراً. أما الجزائر فكان ترتيبها الثالثة عربياً بمقدار 70 مليار دولار، ومصر في المرتبة السادسة عربياً والستين عالمياً بمقدار 54 مليار دولار.

وفي عام 2019، تبين أن الدول العربية تعاني من عجز واضح في موازناتها، فقد تبيّن مثلاً أن المملكة العربية السعودية سوف تعاني من عجز يقارب 140 مليار ريال سعودي، أو ما يقارب 7% من الناتج المحلي الإجمالي. أما المقدر للعام 2019، فإن العجز سوف يتراجع، مع أن المخصصات التنموية قد زيدت بمقدار 7%.

وكانت الخطة الأصلية التي اعتُمِدَت في المملكة أن تصل إلى توازن مالي عام 2023، وهو ما صار يبدو أصعب منالاً. والعقدة المالية التنموية التي تواجهها المملكة العربية السعودية تتشابه مع معظم الدول العربية، النفطية وغير النفطية. والمشكلة أن الدول تسعى للوصول إلى موازنةٍ أقرب ما تكون إلى التوازن، أو بدون عجز أو زيادة للنفقات على الإيرادات، في الوقت نفسه الذي تسعى فيه إلى تحقيق التنمية.


ولعلّ هذه المعضلة أكثر وضوحاً في حالات الدول العربية غير النفطية، مثل الأردن وتونس والسودان بشكل خاص، وفي مصر والمغرب كذلك. وقد شهدت السودان، أخيراً، تراجعاً كبيراً في موقفها المالي، وارتفاعاً حاداً في الأسعار، بسبب تراجع سعر صرف العملة السودانية (الجنيه)، ما أدى إلى خروج الجماهير والأحزاب المُعارِضة في مظاهراتٍ كانت دمويةً أحياناً.

وحصل الأمر نفسه في تونس، حتى وصل الأمر بصحافي إلى حرق نفسه أمام الناس، معيداً إلى الذاكرة ما جرى في بدايات الربيع العربي نهاية العام 2010، عندما أحرق البائع المتجول، محمد البوعزيزي، نفسه احتجاجاً على سوء المعاملة التي لقيها من إحدى الشرطيات.

ونرى المشهد أيضاً يتكرر في الأردن، حيث تُقام احتجاجات محدودة في عمّان بالقرب من دار رئاسة الوزراء (الدوار الرابع)، وتبدأ الاحتجاجات مناهضةً في بداياتها، لوضع مزيد من الأعباء على كاهل المواطن المثقل، إرضاء لما يعتقد الناس أنه تنفيذ لسياسات صندوق النقد الدولي، أو إملاءاته، وتقف الحكومة حائرةً بين الانضباط المالي من ناحية والسعي إلى دفع عجلة النمو من ناحية أخرى.

وفي الإطار العام، وباستثناء دولة قطر، فإن الأقطار العربية الأخرى كلها تواجه هذه المعضلة. والقماش المتاح للثوب يكفي بالكاد إما لسد الديون، وتقليص العجز في الموازنة العامة، أو لتنفيذ مشروعاتٍ بهدف إيجاد فرص عمل، وتقليص نسبة الفقر، ورفع مستوى الخدمات والبنى التحتية.

ويبدو أن العام 2019 سيكون عام مواجهةٍ مباشرةٍ مع هذه المعضلة. ولعل أصعب ما فيها أن الإجراءات المطلوبة لتقليل العجز في الموازنات العامة قد تتطلب إلغاء امتيازاتٍ عن الجهات المناصِرة للحكومات والأنظمة، ففي دول الخليج، كانت الإجراءات التقشفية موجهة أساساً ضد الوافدين. ولكنّ معظم هذه الإجراءات قد استُنفِدَت. ولذلك بدأ التقشف يصل إلى جيوب المواطنين في دول ريعية.

ومن هنا، يكمن التحدي السياسي المستقبلي، والذي يكمن في تعريض أمن دول عربية كثيرة للخطر، إذا ما بدأت الاحتجاجات تشمل مؤيدي النظم القائمة وأشدّ مناصريها. وحيث إن هؤلاء هم الذين يوفّرون القوى البشرية العاملة في الأجهزة العسكرية والأمنية، فإن احتجاجهم قد يؤدي إلى تراجع الولاء، وانقسام الجيش والأمن وضياع تآلفهما، وتعريض أمن الدولة بأكمله لتحديات جسيمة.



وقد بدأت بعض الأنظمة العربية في إدراك هذا الخطر، فسارعت إلى بناء موازناتٍ عامةٍ تركز أكثر من سابقاتها على إحداث النمو وإلقاء مزيدٍ من العبء على الأغنياء والموسرين. وهؤلاء قد يقومون، إن أحسوا بالخوف والفزع، بالتوقف عن الاستثمار، أو إعادة ترتيب أمورهم عن طريق التهرّب من الالتزامات، وإخراج أجزاء مهمة من ثرواتهم إلى الخارج، أو إلى أي أماكن أكثر أمناً حسب اعتقادهم.

وإذا شعر الموسرون، كما حصل في دول كثيرة تاريخياً، فإن الاحتجاجات سوف يؤجّجها الفقراء، ولكن المحرّض الأساسي الكامن وراء العتمة هم الأغنياء، أو الذين قد يتعرّضون للخسارة. وإنها لأقرب في تصورها إلى ما جرى في بريطانيا عام 1215، عندما حاول الملك جون الضغط على الفرسان واللوردات الإقطاعيين، لإثراء خزينته، ليتمكّن من تشديد قبضته على الحكم، فثار هؤلاء عليه، ومعهم الفقراء، واضطر أن يوقع معهم على الوثيقة المشهورة تاريخياً باسم "الماغنا كارتا"، والتي ضمنت مزيداً من الحريات والحقوق، وحماية أموال الكنيسة، علماً أن الذي صاغها كان عميد كنيسة كانتربري الشهيرة.

تتفاوت الأنظمة العربية في قربها من الوصول إلى مواثيق جديدة، وقبولها العام 2019 بصيغ قريبة من "الماغنا كارتا"، خصوصا إذا تراجع الاقتصاد العالمي، ولم تكن الدول العربية واعية للتحدي الكبير الذي يواجهها داخلياً.
المساهمون