مواجهة الاستخبارات العسكرية و"الموساد" استبقت "حرب الغفران" بعقود

01 أكتوبر 2017
تهميش "أمان" أدى لموت مئات الجنود (جاك غيز/فرانس برس)
+ الخط -
جرت العادة في إسرائيل، مع حلول حرب "يوم الغفران اليهودي" (حرب أكتوبر 1973)، ومنذ 44 عاماً، على تخصيص صفحات كاملة في الملاحق المختلفة لتقديم مزيد من المعلومات الجديدة عن أسرار الحرب المذكورة والفشل الإسرائيلي في التنبؤ بوقوعها. وغالباً ما صاحب هذه التقارير، تأجيج ما عُرف في إسرائيل لسنوات بحرب الجنرالات، التي ترتبط بمحاولة نسب النصر، أو الفشل (في حالة حرب أكتوبر) لهذا الجنرال دون غيره، في سياق اتصل كثيراً بالحروب الداخلية داخل حزب المباي الحاكم، وبمدى علاقة وقرب الجنرال أو بُعده، سواء كان إسحاق رابين في حرب الأيام الستة، أم أرييل شارون ودافيد العزار، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حرب 1973، عن القيادة السياسية المقلّصة لحزب المباي، وهل كان محسوباً على غولدا مئير أم دافيد بن غوريون، وهل هو من أتباع ليفي أشكول، أم لا؟

ويبدو أن ملفات الحرب السرية قد استنفدت، باستثناء الخلاف التاريخي المتواصل حتى اليوم حول صدق المعلومات التي أدلى بها أشرف مروان لرئيس "الموساد" تسفي زامير، الذي حاول تحذير قيادة إسرائيل من الحرب المقبلة، مقابل مهنية شعبة الاستخبارات (أمان)، تحت قيادة الجنرال إيلي زعيرا في ذلك الوقت، في تفكيك أسرار تكتيك الدول العربية وجدية نوايا الرئيس المصري الراحل أنور السادات الحربية أو عدمها. فقد اختفت التقارير الحصرية هذا العام بشكل لافت، وحلت محلها تقارير متوسطة الجدية، لكن مع ذلك برز تقريران لافتان، الأول لصحيفة "هآرتس" عن الحرب بين "الموساد" وشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، وجذور هذا الصراع والمنافسة، وآخر هو مقابلة مع رئيس "الموساد" في فترة الحرب، تسفي زامير، أجرتها معه صحيفة "مكور ريشون".

في المقابلة مع زامير، أقر بأن جهاز الاستخبارات العسكرية كان صاحب الكلمة الفصل في التقديرات العسكرية والاستراتيجية. ولكونه كان متهماً من قِبل موشيه ديان بأنه من جماعة غولدا مئير، فقد تم تهميشه وإقصاؤه من جلسات التقديرات الاستراتيجية، حتى بعد إرساله للإنذار الشهير بشأن المعلومات التي حصل عليها من أشرف مروان، فقد تم تجاهلها، بحسب ادعاء زامير. وتبرير ذلك بأن زامير يعمل في خدمة مئير ومحسوب عليها، وهو ما كلّف بحسب ادعائه، إسرائيل موت مئات الجنود سدى في اليومين الأولين للحرب.

استمرت الحرب بين جهازي "الموساد"، و"أمان" بعد حرب أكتوبر 1973 لسنوات طويلة، حتى بدا للرأي العام الإسرائيلي أن الحرب بين الجهازين هي بفعل ما حدث ونتيجة متأخرة للفشل في توقّع حرب 1973. لكن التقرير المفصّل الذي نشره المحلل العسكري في "هآرتس"، أمير أورن، يأتي هذا العام ليعيد جذور الصراع بين الجهازين إلى السنوات الأولى لقيام دولة الاحتلال، وتحديداً للعدوان الثلاثي على مصر، والخلاف في صفوف الحكومة الإسرائيلية، أو للدقة بين دافيد بن غوريون وبين قيادة الجيش آنذاك، حول جدية الإنذارين السوفييتي والأميركي لكل من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا.

وبحسب أورن، فإن بن غوريون قبل بموقف "الموساد" ورئيسه إيسار هرئيل بشأن جدية الإنذار، وخضع للإنذارين السوفييتي والأميركي وسحب قواته من سيناء، فيما كان موقف الجيش بدءاً برئيس الأركان آنذاك، موشيه ديان، وقائد شعبة "أمان"، الجنرال يهوشفاط هركابي، بأنه يمكن تجاهل هذين الإنذارين. لكن ترجيح بن غوريون لكفة موقف "الموساد"، زاد من التنافس بين الجهازين وأوقد الحرب التي استعرت بين الجهازين لعقود طويلة. وكان رفض تحذير زامير بشأن موعد وساعة الصفر للهجوم المصري عام 1973، أحد تجليات هذا الصراع.

وأكد أورن، بناء على وثائق في أرشيف الجيش الإسرائيلي رُفعت السرية عنها أخيراً، حجم وعمق الخلافات التي سادت بين قادة الاستخبارات العسكرية وبين رئيس "الموساد" إيسار هرئيل، ومن تبعه لاحقاً في رئاسة "الموساد". وأشار إلى رسالة بعثها مدير مكتب رئيس الأركان، مردخاي بار أؤون، في سياق الإنذار السوفييتي، لجهة يؤكد فيها أن ديان أبلغ بن غوريون بعدم جدية الإنذار السوفييتي، بسبب عدم رصد أي تحركات أو تحريك لقوات سوفييتية لدعم الإنذار.


وتكشف هذه المسألة التصوّر الذي كان جهاز الاستخبارات يعمل بموجبه وينطلق منه، بأن التقديرات والتوصيات الرسمية يجب أن تصدر عنه، بينما ينبغي أن يقتصر عمل "الموساد" على توفير معلومات أساسية وتحذيرات بشأن مواقف الدول العظمى آنذاك، باستثناء فرنسا التي كانت تربطها علاقات أمنية ممتازة مع إسرائيل. وعزز هذا التصور حقيقة فشل "الموساد" في الحصول على أي معلومة عن صفقة السلاح التشيكية لمصر. واعتبر قادة الجيش أنه في الوقت الذي حققوا فيه هم الإنجاز العسكري، فقد أدى موقف "الموساد" إلى انسحاب الجيش من سيناء.

وأكد أورن وفقاً للوثائق التي يقول إنه اطلع عليها، أن هذا التوتر والحرب بين "الموساد" وشعبة الاستخبارات، ميّزا العقد الأول من عمر الجهازين، خصوصاً عندما كان "الموساد" تحت رئاسة إيسار هرئيل. ودارت الحرب بشكل خاص بين الجنرال هركابي وبين هرئيل، فيما كان يحاول هركابي إخضاع "الموساد" لشعبة الاستخبارات العسكرية، أو على الأقل إعارة أحد جنرالات الجيش لجهاز "الموساد" حتى يكون حلقة وصل، وكجزء من ترشيد عمل الجهاز الذي ادعى هركابي في مراسلات رسمية مع بن غوريون عام 1959، أنه لا يقدّم المعلومات الكاملة والضرورية، وأن انتاجه غير مثمر بما فيه الكفاية.

لم يختلف موقف شعبة الاستخبارات من جهاز "الموساد" حتى خلال فترة رئاسة الجنرال حاييم هرتسوغ (الرئيس الإسرائيلي بين عامي 1983-1993) للشعبة بين عامي 1959 و1962. فقد وجّه رسالة لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، تسفي تسور، تذمّر فيها من شح الميزانيات المخصصة لشعبة الاستخبارات العسكرية، مع أنها حسب وصفه كانت الجسم الأفضل في تحليل الأوضاع في الشرق الأوسط، مقابل الترف الذي يعيشه "الموساد" الذي لا أحد يعرف ما هي صلاحياته ووظائفه الواضحة. مع ذلك تتم مساءلة شعبة الاستخبارات عن حالات القصور من دون أن يوجّه أحد أي مساءلة للجهاز الذي يفترض فيه توفير الإنذارات وتوفير المعلومات لكنه يعطي نتائج تعيسة، بما في ذلك عندما لم يقدّم "الموساد" شيئاً حول المناورات العسكرية التي جرت عام 1960 وحملت اسم "خالد بن الوليد"، وكانت تحاكي حالات انتشار لقوات عربية على امتداد الحدود مع إسرائيل.

وبحسب التقرير، فإن رسالة هرتسوغ هذه أدت عملياً إلى إقصائه من منصبه، وبدا أن إيسار هرئيل تمكًن من البقاء قريباً من بن غوريون وأن ينتصر على أربعة من قادة شعبة الاستخبارات. لكن نهاية هرتسوغ شكّلت عملياً، بحسب تقرير "هآرتس"، بداية نهاية إيسار هرئيل الذي سيطر على جهازي "الموساد" و"الشاباك" لأكثر من عقد ونصف تقريباً.

بعد إزاحة هرتسوغ من جهاز شعبة الاستخبارات العسكرية، تم لأول مرة تعيين جنرال كان مرشحاً أيضاً لرئاسة أركان الجيش، وهو الجنرال مئير عميت. تمكّن عميت من كسب ثقة بن غوريون، فيما تراجع تأثير هرئيل وجهاز "الموساد"، خصوصاً بعد أن بالغ في التحذيرات التي رفعها لبن غوريون عن خطر العلماء الألمان الذين انتقلوا للعمل خبراء في مصر. إلى أن تم دفع هرئيل للاستقالة من منصبه، وتعيين عميت قائماً بأعماله إلى جانب رئاسته لشعبة "أمان"، وهو ما اعتُبر عملياً قبولاً للتوصيات التي رفعها الجنرال هركابي عام 1959.
ووفقاً لتحقيق "هآرتس"، فقد تمكّن الجيش عملياً من فرض سيطرته بهذه الطريقة على "الموساد" لعقدين من الزمن، بدءاً من فترة مئير عميت ومروراً بتسفي زامير، وصولاً إلى يتسحاق حوفي. لكن حوفي وعلى الرغم من التغييرات التي أدخلها على جهاز "الموساد" وعمله، وتحديد صلاحياته ومهامه، إلا أنه فشل هو الآخر في دفع بن غوريون للقبول باقتراحات إقامة جهاز جديد يقوم على الدمج بين الجهازين.

دلالات