في ظلّ ما يعانيه السوريون من هجراتٍ وشتات يفرضان على أفراد العائلة الواحدة أن يكون كلّ منهم في بلد؛ تنبثق أسئلة صغيرة: كيف ستبدو الصورة "الجماعية" التي مُمكن أن تُلتقط لعائلة سورية في أيّامنا هذه؟ وهل ستكون جماعيّة حقّاً؟ أم علينا أن نبحث عن بعض أفراد العائلة خارج إطارها؟
في معرضه "بورتريه عائلي"، الذي يُقام في "غاليري أيام" (دبي) ويستمر حتى 30 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، يحاول التشكيلي السوري مهنّد عُرابي (1977) تقصّي تلك الأسئلة، وإعادة طرحها باحثاً عمّا يمكن أن نسمّيه إجابات ناقصة عليها. نسمّيها إجابات ناقصة ليس لقصورٍ فني؛ وإنمّا لأنّ المسألة لا يمكن أن تتلخّص في جوابٍ نهائي حاسم، كما بدا في تلك اللوحات؛ إذ ما زالت الأعيُن فيها تتساءل دامعةً أو حائرة، والملامحُ، سواءً كانت للوجه أو للملابس/الأجساد، غامضة بعض الشيء، ملوّنة بالأسود والأبيض.
يشي اللونان بانطباعاتٍ كثيرة يحاول عُرابي إيصالها. فالأعمال تتخفّف من المبالغات التقنية، مقابل منح الأبيض والأسود كتلاً ومساحاتٍ أكبر. في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول عُرابي حول هذه النقطة: "فرضت الحالة التعبيرية واللونية نفسَها على السطح الأبيض، الذي غالباً ما أبدأ باستفزازه عبر اللعب بالألوان عليه".
يضيف: "ثمّ يبدأ الحوار بين الألوان في بلوغ ذروته، لينتهي مُتّخذاً شكل الشخوص المرسومة، مُحاولاً نقل حزن هذه العائلات المرسومة؛ حزنٌ يجمع بين النبل الإنساني والترفّع عن الألم".
هكذا، كما يوضّح عُرابي، فإنّ "التقشف اللوني، يمنح الناظر تعبيراً عن عمق الواقع الرمادي المعقّد؛ إذ أفصل بين الشخوص بهالات بيضاء، جاعلاً من اللباس، وهو القماش المخرّم (الدانتيل) غلالةً سوداء على أجسادهم، تاركاً العيون لامعةً، تُنبئ بالفقد والعجز، وتسأل: أين هُم؟".
لوهلة، ورغم أنّها تُحاكي واقعاً آنياً معيشاً، إلّا أنّ أعمال "بورتريه عائلي" تبدو وكأنّها منقولة عن صور فوتوغرافية حقيقيّة قديمة. هنا، تلعبُ الذاكرة دوراً في استعادةٍ يسعى إليها الفنان، مُسقطاً إيّاها على الحاضر، بتعديلاتٍ تُجريها مخيّلته التي عادت به إلى طفولته، ليقارن بين واقعَين:
"كان لدينا في منازلنا صور عائلية، أغلبها بالأبيض والأسود. كنّا ننظر إليها بطريقة عادية ومحايدة. لكن بعد تفرّقنا وشتاتنا، أصبح الأمر مختلفاً"، يقول عرابي، موضّحاً: "أنظر الآن إلى تلك الصور بطريقة مغايرة. لقد أعادت لي ذاكرة مرتبطة بمكان وأشخاص. حاولت في المعرض أن أصوغ هذه الحالة من خلال البحث في ذاكرتي".
رغم هذا، يبقى الفنان يحمل شيئاً من التفاؤل. ففي بعض اللوحات، نجد، إضافة إلى الأبيض والأسود، زهوراً ما تزال تحافظ على حُمرتها: "صحيح أنّ الإنسان يفتقد إلى أمانه بسبب تزعزع استقراره وهجرته، لكن يظلّ هناك ضوء مُنعكس على الوجوه، وعيون برّاقة، تبشّر بنورٍ ما قادم. إنّها صورٌ تتنظر أصحابها".
مواد مختلطة على قماش، 150 × 150 (2014) |
من جهةٍ أخرى، تبقى الصّور ناقصةً، فالعائلة في معظم الأعمال تتكوّن من أمّ وأطفالها، وأحياناً الأطفال وحدهم، أو برفقة دُماهم. لكن الأب غائبٌ بشكل شبه كامل تقريباً. غيابٌ يمكن أن يُفسَّر بطريقتين: إمّا أنّه مُغيّبٌ عن قصد، بوصفه رمزاً للسّلطة، أو أنّ ذلك إشارة إلى حالةٍ من اليُتم التي يعيشها أفراد العائلة بعد تشتّتها.
في هذا السياق، يترك عُرابي باب الأسئلة مفتوحاً. يقول: "الشخص المفقود في اللوحة، يسمح لذاك السؤال بأن يظلّ مستمراً: أين هو/هم؟ هل اختفى؟ أو هاجر؟ أو ربّما استشهد؟ إنّها أسئلة تعبّر عن شيءٍ من العجز، وتُشكّل محاولةً للبحث في عوالم هذه الشخصيات واكتشاف قصصها".
من اللافت في مُجمل أعمال عُرابي، سواءً في هذا المعرض، أو في معارض سابقة، أنّه، وخلافاً لكثير من الفنانين، استطاع أن يستحضر الحرب من دون رسم أدواتِها؛ أسلحة وبيوت مهدّمة وما إلى ذلك، بل تركها مقروءةً وبيّنةً في وجوه شخوصه، متجنّباً أن يتطرّق لها بصورةٍ حَرفيّة.
يقول: "لا أحاول التعبير بشكل مباشر عن مفردات الحرب؛ فالمشهد الإنساني في العمل يخبر القصة، ويشير إلى واقع أليم"، ويعيد مؤكّداً: "الفقد والألم والعجز، كما ذكرت سابقاً، يمكن تلمّسهم في النظرات التي تحملها تلك الشخوص، من دون الحاجة إلى إعادة إنتاج الحرب كما هي في العمل الفني".