بعد ساعاتٍ قليلة، يختم "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)" دورته الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020. الأيام السابقة مرّت من دون مشاكل تُذكر، ما يعني أنّ الدورة هذه نجحت، بجدارة واستحقاق. الظروف والملابسات المرتبطة بها خطرة للغاية. لكنْ، بناءً على المعطيات، يجوز وصفها بالاستثنائية. دورة دخلت تاريخ المهرجانات السينمائية بحقّ، كما أنّها ستبقى في الأذهان. وهذا ليس لأنّها "دورة كورونا والكمامات" (أو أي مُسمّى آخر)، بل لأنّها أساساً دورة نجاح وتفوّق، ودرسٌ في التحدّي والانضباط، والقدرة على تجاوز المخاطر.
ففريق عمل "مهرجان فينيسيا السينمائي"، في دورة هذا العام، كأول حدث سينمائي كبير ينعقد منذ تفشّي وباء كورونا المستجدّ، قدّم مَثَلا يُحتذى في حُسن التنظيم والإدارة، والالتزام الصارم بالتعليمات وطرق السلامة والوقاية، والتقيّد بتنفيذ البروتوكول الصحي عملياً؛ مُمهّداً بذلك السبيل أمام المهرجانات السينمائية، المحلية والدولية، لإقامة دوراتها المقبلة من دون خوفٍ من تفشّي إصابات بين الجمهور، أو الاضطرار إلى حَجر أيّ ضيف، مع تذليل العقبات كلّها.
من ناحية أخرى، أوجد الأمل، الذي منحه نجاح "لا موسترا الـ77"، تحدّيات ضخمة وكثيرة، سيتعيّن على أيّ مهرجان سينمائي السير على خطاها، لإنجاح دورته وإكمالها من دون مشاكل وعوائق. فإلى جانب تدابير السلامة الصحية، وأساليب مختلفة من التأمين والوقاية للضيوف، حتى قبل سفرهم من بلدانهم، هناك حجم الإنفاق على البروتوكول الخاص بتنفيذ هذا كلّه، الذي بلغ، حتّى يوم الافتتاح، 600 ألف يورو.
من التدابير الموضوعة شهادة تؤكّد عدم إصابة كلّ ضيف بالفيروس، واختبارات الحرارة، والحجز الإلكتروني للتذاكر بالاسم ورقم المقعد، منعاً لاصطفاف الناس أمام الصالات، وسهولة تتبّع أيّ مُصاب والجالسين إلى جواره، والتزمّت التام بخصوص ارتداء الكمّامات أثناء العروض، وتنبيه المخالفين في عتمة الصالات، والتقيّد بالتعليمات المُشدّدة بضرورة ردّ التذاكر أو إلغاء الحجز إذا قرّر مُشاهدٌ عدم حضور العرض لأي سببٍ. في هذا الإطار، يُذكر أنّ أحدهم حجز 48 تذكرة، لكنه لم يحضر سوى 6 مرّات فقط، فسُحِبت البطاقة منه. كما تَدَخّلت إدارة المهرجان مع وزارة الخارجية الإيطالية لتسخير كلّ الجهود الدبلوماسية الممكنة، بهدف تسهيل سفر المخرج المكسيكي ميشال فرانكو، المشارك في المسابقة الرسمية بفيلمه الأخير "نظام جديد"، والمخرجة الصينية آن هوي، الحاصلة على "الأسد الذهبي التكريميّ" لإنجازها المهني، بعد أنْ منعتهما سلطات الطيران في بلديهما من السفر.
إلى جانب هذا، اعتمدت إدارة المهرجان تغييرات في بُناه التحتية واللوجستية، للتغلّب على مُشكلة تحقيق المسافات الآمنة، بالتزام الحدّ الأقصى لعدد المُشاهدين في الصالات، مُضيفة 8 شاشات أخرى، فبلغ عدد الشاشات التي تعرض أفلام المهرجان 18، علماً أن لدورة العام الماضي 10 شاشات فقط، ما أدّى إلى زيادة الإنفاق المالي بمليون يورو، كتكلفةٍ لتأمين الشاشات الإضافية. رغم هذا، فالأرقام المُعلنة قبل بدء الدورة الأخيرة ليست نهائية، وفقاً لما أعلنته إدارة "مؤسّسة البينالي" (المُشرفة على المهرجان)، مع تأكيدها على أنها تضع في حساباتها نفقات تتعلّق بمُستجدات طارئة خلال أيام الدورة تلك، على أنْ تُعلن الأرقام النهائية بعد انتهائها.
تأمّل الأرقام السابقة يوضح كَمّ الإنفاق الذي تكبّدته "مؤسّسة البينالي"، مع التنبّه إلى أنّه، رغم التكاليف الباهظة، حضر هذه الدورة نصف عدد الحضور المُعتاد تردّده على أيامها في الأعوام السابقة، بسبب قيود السفر. نظرة سريعة على بعض الأرقام تُفيد أنّه تمّ إصدار 5 آلاف بطاقة اعتماد لصحافيين من مختلف الفئات، ولأهل الصناعة والطلاب والجمهور، مُقارنة بـ12 ألف بطاقة أصدرها المهرجان العام الماضي. بطاقات الصحافة بلغت 850 بطاقة للصحافة الإيطالية، و450 للصحافيين الأجانب. رقمان هزيلان، مُقارنة بأرقام الدورات الماضية. أما عدد المقاعد المُتاحة في مختلف الصالات، فبلغ 4500، بينما كان 6 آلاف في العام الماضي. وخلال الأسبوع الأول، بيعت 20 ألف تذكرة، أيّ أقلّ بـ22 ألف تذكرة عن رقم الأسبوع الأول أيضاً من دورة العام الماضي.
يُشار إلى أنّ عدد الأفلام تراجع (55 ـ 60 فيلما هذا العام)، لإتاحة أكبر قدر ممكن من العروض الآمنة، كما قال المدير الفني للمهرجان ألبيرتو باربيرا (1950)، المُنتهية ولايته بعد هذه الدورة. لكن هذا غير مؤكّد، إذْ لا يُعرف لغاية الآن إنْ كان سيتمّ التجديد له في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، لفترة ثالثة تمتدّ 4 أعوام، أو أنّه سيتقاعد. وأكّد باربيرا أنّ عدد الأفلام "معقولٌ جداً"، ما أتاح لروّاد المهرجان مُشاهدة أكبر قدر من الأفلام، من دون خشية فقدان الكثير منها، بسبب تداخل مواعيد العروض.
عشية انتهاء الدورة الـ77، تُطرح أسئلة عدّة: إذا استمرّ تفشّي "كورونا" فترة طويلة، تمتدّ إلى العام المقبل، فهل ستتأجّل دورات المهرجانات السينمائية، كـ"كانّ" و"كارلوفي فاري" وغيرهما؛ أو سيُطبّق نموذج "فينيسيا"، بقواعده المفروضة والناجحة، التي يُمكن أنْ تُحتَذى، لحُسن التنظيم؟ وماذا عن مهرجانات العالم العربي، بإمكانياتها المادية واللوجستية المعروفة للجميع؟ والأهمّ من ذلك: هل يُمكن الرهان على وعي الضيوف والجمهور العادي، والالتزام الصارم بالنظام وتدابير السلامة والوقاية؟ وهل تقدر تلك المهرجانات على "ملاحقة" المُخالفين؟