مهرجان السينما الأوروبية: جماليات ألوان ومسارات

30 يناير 2017
من "أداما" لسيمون رووبي (فيسبوك)
+ الخط -
رغم التطوّر التقنيّ والدراميّ البديع، الذي تُحقّقه صناعة أفلام التحريك في العالم، لا تزال مهرجانات سينمائية عربية ودولية منفضّة عنها، علماً أن لهذه الصناعة حضوراً كبيراً في التوزيع التجاري الغربي، كما أن لها مهرجانات متخصّصة بها. وهذا، من دون تناسي تنامي الاهتمام السينمائي العربيّ بها، سواء بتحقيق أفلامٍ كاملة بتقنياتها، أو بإدخال مقاطع ومشاهد عديدة، مصنوعة بها، إلى السياق الحكائيّ والدراميّ والجماليّ والوثائقيّ.
ومع أن "مهرجان السينما الأوروبية"، الذي يُقام في بيروت منذ 23 دورة، يُقدِّم ـ سنوياً ـ بعض أفضل الأفلام السينمائية المُنتجة في القارة القديمة، إلا أن أفلام التحريك لا تعثر، دائماً، على مكانٍ لها في برمجته السنوية. وهذا ـ إذْ يؤخذ على إدارته عدم تنبّهها إلى أهمية التحريك، تقنياً وفنياً وجمالياً وثقافةً وصناعةً (من دون تناسي عقبات عديدة تحول دون حصول "بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان"، مُنظِّمة المهرجان، على الأفلام المرتجاة كلّها) ـ يجد في برنامج الدورة الجديدة (26 يناير/ كانون الثاني ـ 6 فبراير/ شباط 2017) حيّزاً متواضعاً، يتمثّل باختيار فيلمين اثنين، من أصل 41 فيلماً، هما: "شارع الرحمة" (رومانيا، 2016) للأخوين ستفان وألكسندرو بوزيا، و"أداما" (فرنسا، 2015) لسيمون رووبي.
في مقابل وصفٍ نقديّ، يُحدِّد "شارع الرحمة" بأنه "أول فيلم تحريك روائيّ طويل، روماني مئة بالمئة"، فإن "أداما" يأتي في سياق تاريخي ـ نقدي ـ ثقافي متكامل لصناعة التحريك في فرنسا، وهي صناعة تشهد تنافساً إبداعياً بين هوياتٍ/ جنسياتٍ مختلفة، لعلّ أبرزها منتمٍ إلى اليابان وروسيا وبلجيكا، بالإضافة إلى أميركا وهوليوود. وإذْ يغوص الرومانيّ في عوالم سحرية، تتلاءم ومنطق أفلام التحريك بنسخها الكلاسيكية، على مستوى المناخ السحريّ والمتخيَّل على الأقلّ؛ فإن الفرنسيّ يتابع وقائع رحلة جغرافية لمراهق يبحث عن شقيقه المختفي.
بين أول تحريك روماني كامل، وجديد الصناعة الفرنسية الفاعلة، يُقدّم "مهرجان السينما الأوروبية الـ 23" نموذجين مختلفين، شكلاً ومضموناً، في اشتغالٍ سينمائي يستفيد من التقنيات الحديثة، لرسم معالم بيئات وملامح أناسٍ، وليروي سِيَراً وحكاياتٍ مستلّة من الواقع، أو من متخيّل يستند إلى واقع. أما الجماليات البصرية، فتتشابه في الفيلمين، على مستوى حرفية الصُنعة، وبهاء الألوان، ومتانة اللغة السردية. والتشابه كامنٌ، أيضاً، في أن الشخصيتين الرئيسيتين صبيّان، هما لورنزو (10 أعوام) وأداما (12 عاماً)، وإنْ تذهب كلّ منهما في اتجاهات مختلفة، وإلى عوالم متناقضة، تنتهي عند شكلٍ إنسانيّ للحياة: الخير أقوى، والحبّ أجمل، والسلام قَدَرٌ.
لن يسقط الفيلمان في فخّ تنظير فكريّ مثاليّ، لكنهما يسبران أغوار ذاتٍ بشرية، من خلال شخصيتي صبيين صغيري السنّ، كي يكتشفا تفاصيل وهوامش، عن الحياة والعلاقات والمشاعر والمُثل والقيم، من خلال بناء سرديّ، يخترق أوّلهما جدران الواقع باتّجاه عوالم سرّية، ويغوص ثانيهما في أعماق الواقع، فيواجه تحدّيات الحياة والناس والمدن.
يروي سيناريو "شارع الرحمة" (ألكس بوردونيو) حكاية لورنزو، الذي لن يتردّد عن فعل أيّ شيء وكلّ شيء، كي يُنقذ العالم من جشع ماركوس، الرجل المؤذي، الساعي وراء الخلود، على حساب الجميع. بينما يتابع سيناريو "أداما" (جوليان ليلتي وسيمون رووبي) بحث الصبي عن شقيقه، في رحلة تُخرجه من قريته النائية في غرب أفريقيا، وتدفعه إلى خوض تجربة الاكتشاف: اكتشاف ما وراء البحار، كبلدان ومجتمعات وأناسٍ وثقافاتٍ. وهذا يُشبه، إلى حدّ ما، مسار لورنزو في العالم السرّي، الذي يعثر عليه صدفةً، والذي يجد فيه مبتغاه الأساسيّ.
وإذْ تدور أحداث "أداما" في عام 1916، مع ما يعنيه هذا من مواجهةٍ إضافية لابن الأعوام الـ 12، تتمثّل بإفرازات الحرب العالمية الأولى في مناطق عديدة، فإن تحديد الزمن لن يكون أساسياً أو مهمّاً، في الفيلم الروماني، كنوعٍ من تعبيرٍ مبطّن عن أن الجشع الفرديّ يبقى خارج الزمان والمكان المحدّدين، لأنه صفة حاضرةٌ في أفراد وجماعات منذ فجر التاريخ، وفي كلّ الجغرافيا. لكن هذا لن يقف حائلاً دون التنبّه إلى أن النواة الدرامية الإنسانية في "أداما" قابلةٌ لأن تكون، هي أيضاً، خارج زمان ومكان محدّدين، لأن الإحساس بالأخوّة والتحدّي واكتشاف المجهول تُشكّل، كلّها، وغيرها من الأمور، جوانب أساسية في البناء الإنسانيّ للأفراد والجماعات.
أما الجانب التقني، فيمتلك جمالياتٍ تنفلش على كيفية استخدام الأدوات المطلوبة، في تصميم الديكورات وبناء الشخصيات وسرد الأحداث، وتتراوح بين "تقنية البُعدين" و"تقنية الأبعاد الثلاثة"، في تركيبٍ سينمائيّ يختلف بين الفيلمين، ويؤدّي إلى رسومٍ تتلاءم والفضاءات الإنسانية والطبيعية والروحية للمضمونين والشخصيتين، ومحيطهما.







دلالات
المساهمون