من يهدم مؤسسات الدولة المصرية؟

02 ديسمبر 2016
+ الخط -
لسنا من الذين يدعون إلى تقويض مؤسسات الدولة المصرية ونقض بنيانها. دعوتنا الدائمة والقائمة التعرف على الدولة في حقيقتها وجوهرها، ووظائفها وأدوارها، بحيث تقوم بكل ما من شأنه خدمة المواطن، والقدرة على تلبية حاجاته ومطالبه. لسنا ممن يخلطون عن عمدٍ بين الدولة وجهازها التنفيذي، في محاولة للخلط بين الحاكم وحقيقة الدولة، كما أننا لسنا من هؤلاء الدولتية (الدولجية) الذين يتحدثون، ليل نهار، عن أن أي نقد لممارسات جهازها التنفيذي، أو حكامها، هو بمثابة نقض لعرُى الدولة وهدمٍ لمؤسساتها، هؤلاء الدولتية (الدولجية) الذين يتصدّرون المشهد كل لحظةٍ في محاولةٍ منهم للحفاظ على أجهزة الدولة، بمعايبها وفسادها ومسالك استبدادها.
إنه الخيط الرفيع الذي يجب أن نميز فيه بين الدولة كياناً وبنياناً وأدواراً ووظائف من جهة والممارسات الضالة التي يحميها المستبد بشبكات طغيانه ومؤسسات فساده من جهة ثانية. يجعلنا هذا الخيط الرفيع نجيب عن هذا التساؤل الذي يدور في خلد بعضهم ممن يهدم مؤسسات الدولة. وغاية الأمر للإجابة على هذا التساؤل تحتاج منا أن نكيّف تلك الأوضاع التي مرّت على مصر بعد الثورة، فهناك الذين يقدمون نقداً حاداً للثورة وأهلها، مدّعين أنهم بأفعالهم إنما يستهدفون الدولة ومؤسساتها ونقضها هذه وهدمها، بل يتحدثون كذلك عن أن الثورات ليست إلا حالة من حالات الفوضى التي يجب مقاومتها ومواجهتها. وهم بذلك يعنون الحفاظ على السلطة مهما كانت فاسدة، وسلطانها مهما كان طاغياً ظالماً، معتبرين أن الحفاظ على الدولة بتلك الهيئة القبيحة هو حفاظ على الدولة الحقيقية.
يتلاعب المستبد من خلال حيلة خلط الأوراق بين كل هذه المعاني، ويهدم الخيوط الرفيعة التي تفصل بين معنى ومعنى ويطمسها، وبين موقفٍ وموقف، في عملية مصادرة كبرى لكل خطابات التغيير والإصلاح ومطالباتهما، ومصادرة كل أعمال الاحتجاج ومقاومة الظلم، بدعوى أنها تؤدي بالضرورة إلى الفوضى وتعطيل عجلة الإنتاج.
خطاب محفوظ ومكرور لدى هؤلاء يلقونه، في كل لحظة وحين، يساندهم، للأسف، بعض من سدنة الإفك الإعلامي الذين يبرّرون لكل مستبدٍّ أمره وممارساته الباطشة والظالمة، وكذلك من المؤسف أكثر أن يقوم بعض هؤلاء الذين يحسبون على علم السياسة، فيتحدّثون عن رؤاهم
تبريراً للحكم المطلق، ويقفز إلى المشهد أيضا هؤلاء المنافقون والمشتاقون لأن يكونوا في صف السلطة، أية سلطة. قلنا عن هؤلاء إنهم ينتمون زوراً إلى حقل العلوم السياسية، وهم، في الحقيقة، ابتدعوا خطا ومسارا يستحق مسمى "العلوم السيسية"، كما تنضم إلى هؤلاء شلة ممن يسمون خبراء استراتيجيين، يسوّغون كل أمر بدعوى الأمن القومي تارة، وأمن الدولة تارة أخرى. وما هؤلاء بخبراء، إنما هم جماعة من المتطفلين على موائد السلطة وموائد الإعلام. أقول ذلك بمناسبة دعواتٍ تأتي من هنا وهناك، تنافح عن الاستبداد ومؤسسات الدولة الفاسدة وممارسات من فيها أو من يديرها، وكذلك لدعواتٍ عن ضرورة نقض هذه المؤسسات عن آخرها، لا يفرق فيها بين عناصر الصلاح ومكامن الفساد وسياسات الظلم وهؤلاء الذين يمارسون عملهم بمهنية ويقضون حوائج الناس. يبدو أن هؤلاء وهؤلاء يقفون على طرفي خط واحد، سواء هؤلاء الدولجية الذين يتحدثون عن الحفاظ على مؤسسات الدولة على فسادٍ وعدم القيام بوظائفها وأدوارها. أما التطرّف الثاني فهو الذي ينقض كل مؤسسات الدولة، حينما يرى، في بعض أركانها وأرجائها، فساداً، ويتخذ قراراً بهدم البيت كله. خطابان يتسمان بالخطأ والخطر، لا يفرّق كل منهما بين الخيط الرفيع بين الدولة جوهرا وأجهزة الحكم المستبدة والفاسدة وممارساتها، وهؤلاء الذين لا يفرقون بين فساد بعض القيادات في تلك المؤسسات، فيتحدثون عن هدمها برمتها وبأكملها.
وغاية الأمر أن نتحقّق من هذا الخيط الرفيع والتفرقة بين الزيف والحقيقة، ضمن معايير، يجب أن نوضحها ونبينها، والوصف الحقيقي، في هذا المقام، أن ما يسمونها الدولة، وبعد أن صادرت منظومة الانقلاب كل الاستحقاقات التي تعبر عن إرادة الشعب، وصادرت كل ما من شأنه أن يعبر عن مسار ديمقراطي، ويمرّرون بلطجة السلاح، حينما يستخدم في غير مقامه أو مكانه، يلوح بها الجنرال، متدثرا تارة بما يدّعيه من غطاء شعبي، أو ملبساً على ذلك بمقولات مثل الأمن القومي. وفي حقيقة الأمر، يعني تكييف هذا الشأن أن هؤلاء ليسوا الدولة أو أجهزتها الحقيقية، إنما هي عصابة اختطفت مؤسسات الدولة، بل والدولة ذاتها، وأرادت أن تشرعن غصبها واغتصابها، واستبدادها وطغيانها، سياسات إفكها وظلمها، وهو أمر شديد الخطورة، كما سبق القول.
لا بد وأن تستعاد المؤسسات المختطفة، ونمكّن لوظائفها الحقيقية وأدوارها، ونؤسّس لكل معاني الدولة الفاعلة العادلة، الراشدة في قراراتها، الملائمة في سياساتها، المحقّقة أهداف مواطنيها
وضروراتهم المعاشية والحياتية، أما ما يطلق مجازا عن دولة، وهي مجموعة مكونة لعصابة تصرفت بالبلاد والعباد، بأنهما "عزبة" أو "وسية" ترث الأرض ومن عليها، وتتصرّف في الشأن العام والسياسي بالتحكم الطاغي ومنطق القطيع، وفي إطار علاقةٍ تتعلق بالسيد والعبد.
وهنا ضمن هذه التفرقة بالخيط الرفيع، علينا أن نجيب ضمن هذه السياقات عن هذا التساؤل المطروح من يهدم مؤسسات الدولة؟ يهدمها من يحمي مؤسسات فسادها، ينقضها من يحاول أن يجعل وظائفها بالضد، وعكس مقصودها، يهدمها من خرّب مقدّراتها وفرّط في مواردها ويبيع باستخفاف أراضيها، ويهدم تلك المؤسسات، حينما يقوم بعمليات إغراء وإغواء لفئات متعدّدة من فسدة وسدنة في حقول الإعلام والأمن والقضاء والاقتصاد. ويأتي هؤلاء المتطفلون على مجال السياسة، فيغتصبونها ويزهقون روحها، ومقاصدها التي تتعلق بصلاح المواطن والوطن، وإقامة مصالح العباد والبلاد.
هل يمكننا بعد ذلك أن نتعرّف على إجابة حقيقية، وقد اتخذ المستبدون من دولة "كأن" (شبه الدولة) ومن إدارة فاشلة (الدولة الفاشلة) ومن جهاز تنفيذي ظالم (الدولة الظالمة) ومن هؤلاء الذين احترفوا الجباية (الدولة الجابية)، وهؤلاء الذين يستخدمون أدوات التشريع والقانون لابتزاز شعوبهم، ووضع خيرة أبناء هذا الشعب في السجون والاعتقالات، وحرفة المستبد في بناء السجون مع ضياع الخدمات وغلاء الأسعار والتغوّل على كل ما يتعلق بمعاش الناس، إنما يعبر عن حقيقة تلك العصابة التي اختطفت الدولة والوطن والشعب والمواطن، فحولته إلى سجن كبير، ولوحت باستخدام قوى جيش (فرد الجيش في ست ساعات) لمواجهة شعبٍ بأكمله.
هؤلاء في الحقيقة هم الذين يهدمون الدولة، وينقضون مؤسساتها، وعلى هؤلاء الذين يعبرون عن مقاومةٍ لهذا الانقلاب الغاصب أن يفرّقوا بين جنرالات العسكر وفسادهم كعصابةٍ متحكّمة، وبين هؤلاء الذين يقومون بكل أمرٍ في خدمة عموم الناس، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. نحن لا نحرّض على الجيش، ولا نغري برجاله، لكننا نؤكد على فساد هذه المؤسسات وقياداتها الذين اختطفوها عنوةً وقهراً، وسيّروها في غير طريقها، وضيعوا عن عمد أدوارها، فالأمن صارت بضاعته صناعة الخوف، والجيش لا يحمي الحدود، وإنما يوجه سلاحه إلى صدور الناس، ويروّع ، ويخوف، ويحشد. والإعلام يكذب ويتحرّى الكذب، ويقدم مادة افتراء يومية، وصار القضاء الذي وظيفته العدل والإنصاف يمارس أقسى سياسات الظلم والإجحاف، مؤسسات مختطفة، وعصابة متحكّمة، وثورة يجب أن تغير كل فاسد، وتؤمن كل صالح، وتقيم القواعد، وتؤسّس لفهم عميق للخيط الرفيع. هنا، فقط سنعرف ونعين من الذي يهدم الدولة، ومن الذي يختطف مؤسساتها.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".