01 أكتوبر 2022
من ينتصر سياسياً ينتصر قضائياً
مع كل عودة لملف محاكمة حسني مبارك، يعود الجدل حول تفسير أحكامها، يطرح بعضهم وجود موقف سياسي ثابت من القضاة ضد قضايا الثورة، فيما يفترض آخرون أن المحاكم محايدة تماماً، لكن مشكلة الأحكام تقنية، سواء لعدم توافر الأدلة، أو بسببب قوانين زمن مبارك التي تم تفصيلها لصالح أهل السلطة.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة والحقيقية للعنصرين، إلا أنهما ليسا كافيين لتفسير الصورة كاملة، وإلا لما كانت محكمة أول درجة، برئاسة المستشار أحمد رفعت، حكمت على مبارك وووزير داخليته، حبيب العادلي، بالحبس المؤبد، على الرغم من عدم توفر الأدلة المباشرة، استناداً إلى أنهما علما بقتل المتظاهرين، فلم يوفرا لهم الحماية.
حين نتتبع مسار قضايا سياسية عديدة، يمكننا الربط بشكل واضح بينها وبين صعود أجواء سياسية موازية وهبوطها. صدر في أبريل/ نيسان 2012 تقرير لجنة تقصي الحقائق الأولى، حاملاً توثيقاً ممتازاً للأحداث، وإدانة صريحة لقتل الشرطة المتظاهرين بشتى الطرق، على الرغم من أن هذه اللجنة شكلها رئيس الوزراء، أحمد شفيق، في الأيام الأخيرة من حكم مبارك، برئاسة رئيس محكمة النقض الأسبق، وكان من أعضائها وزير العدالة الانتقالية بعد "30 يونيو"، المستشار محمد أمين المهدي، وهكذا شهدنا في يونيو/ حزيران 2012 حكم الدرجة الأولى بالمؤبد. شهدنا، خلال العامين 2011، 2012، أحكاماً قضائية ثورية متسارعة، مثل حل مجلس الشعب، حل الحزب الوطني (الحاكم)، حل المجالس المحلية. كان من المستحيل تماماً أن تصدر هذه الأحكام الجذرية في عهد مبارك. هذا بالإضافة إلى إطلاق سراح المتظاهرين في قضايا أحداث ما بعد الثورة، ما اضطر المجلس العسكري الحاكم للتوسع في المحاكمات العسكرية.
كانت الثورة في عز عنفوانها، حتى وصل الحال بأغلب رجال مبارك إلى التظاهر بتأييدها، إلى حد أن محامي مبارك نقل عنه أنه هو أيضاً كان مع مطالب الثورة. كانوا يتسابقون إلى إرضاء المزاج الشعبي العام، وليس إرضاء الثوار. وبدوره، تفاعل القضاء، لا لأن القضاة أصبحوا ثوريين، وإنما لأن القضاء كمؤسسة يتعامل بوصفه أحد أركان الدولة الرسمية، وبالتالي، يتخذ في القضايا السياسية موقفاً محافظاً متوافقاً مع التوجه العام.
تدريجيأ مع تراجع قوة الثورة وشعبيتها، تغير مسار قضية مبارك، تم قبول الطعن، وحصل على البراءة الأولى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، ثم أخيراً على الحكم النهائي.
يظهر النمط نفسه في قضية الهروب من وادي النطرون الخاصة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، ظلت القضية مختفية تماماً منذ 2011، ولم تظهر في أثناء ترشحه عائقا قانونيا على الإطلاق، وكذك لم تظهر خلال النصف الأول من عهده، ثم عادت فجأة إلى الصعود تدريجياً في مسار متوازٍ مع تدهور شعبيته وتعثّره. كانت القضية تخص واقعة هروب عادية للغاية لمتهم جنائي، لكن رئيس محكمة جنح الإسماعيلية قرّر فجأة توسيع نطاقها، وهكذا ظهر اسم مرسي، للمرة الأولى، مطلوباً شاهدا فقط في 28 أبريل/ نيسان. حدث في مايو/ أيار تطور مفاجئ بظهور شاهد حكى عن اقتحام حركة حماس السجن، وأخيراً في 22 يونيو/ صدر الحكم ببراءة المتهم الأصلي، وطلب القاضي من النيابة التحقيق في القضية، متضمنة قادة من حركة حماس وحزب الله، وإحالتها إلى الجنايات، وهو ما حدث بالفعل بعد عزل مرسي. لو كانت أحداث 30 يونيو قد أخذت مساراً مختلفاً لكان مصير هذه القضية النسيان التام. شهدنا كذلك تغيرات سياسة القضاء المدني نحو المتظاهرين، حتى أصبح ينافس، في شدة أحكامه، المحاكم العسكرية. هناك أسبابٌ تقنيةٌ تخص القوانين وتشكيل دوائر الإرهاب مثلاً، لكنْ هناك أسبابٌ تتعلق بالمناخ السياسي، وأيضاً تتعلق بتعامل القضاء (بُنيوياً)، حيث شعر كل قاضٍ بعداء شخصي مع "الإخوان المسلمين"، بعد تلويحهم بقانون المعاش المبكر للقضاة، وتظاهرهم أمام دار القضاء العالي، وغيرها.
لم يكن القضاء سبب هزيمتنا سياسياً، بل العلاقة عكسية. لقد هُزمنا أولاً، ثم جاءت هذه الأحكام أعراضاً تابعة لهزيمتنا. لذلك، المهمة الأصعب على أهل الثورة هي تحسين موقفهم السياسي، وحينها سيتحسّن موقفهم القضائي، سواء بإمكانية التأثير التقني على القوانين واللوائح، أو بآثر المناخ السياسي العام. لا إصلاح للقضاء بغير إصلاح السياسة.