يحكي الأديب اللبناني أنيس فريحة في كتابه الشهير"اسمع يا رضا" حكايات طفولته لولده كما عاشها في مطلع القرن العشرين، فيعدّد أنواع الألعاب التي كان يمارسها مع أتراب قريته، من قبيل الإتيان بخشبتين ودقهما بمسمار وجعلهما مسدسا.. أو الاختباء في أغمار القمح، أو سوى ذلك من لُعب القرن الماضي..
ومنذ أسابيع عاينتُ أطفالي في القرية وقد هدتْهم فطرتهم إلى جعل غالونات المياه البلاستيكية (زحلوقات) في أزقّة الضيعة فلمست في نفوسهم سعادة لم أعهدها من قبل وضحكات مدويّة لم يطلقوا مثلها من قبل، بالطبع الألعاب مع عناصر الطبيعة كالماء والرمل والأشجار والأحجار لا تماثلها متعة، وهذه فرصة للامتنان لأنني عرفت بعض هذه الألعاب ولعبتها.. طفولة القرية يقضيها الطفل بين الحقول والبساتين أما طفولة المدينة قديما فكنا نقطع مللها بلعبة "البرجيس" أو المونوبولي أو اللعب بالأحجار البحرية.
أما لعبة البرجيس المحببة إلى قلبي فقد أصبحت شيئاً من التراث، ومن المقتنيات الأثرية.. يقال إن أصلها فارسي، لكنها لعبة تقليدية شائعة جدا في بلاد الشام إلى درجة أن بعضهم يقول إنهم كانوا يضعونها في جهاز العروس!
اليوم وأنا أتذكر طفولتنا ومراهقتنا التي رافقت تلك اللعبة طويلاً، أتذكر أنني كلبنانية، فهي ترتبط عندي بأيام الحرب ولياليها، حيث كان الخروج مستحيلا أو قليلا جدا.. وكان العمر يمضي إما في الملاجئ أو على السلالم احتماءً من القصف والقذائف.. وحدها البرجيس كانت الملاذ والسلوى..
فالجدير ذكره أن "دق" البرجيس يستغرق أحيانا ساعات وقد ينتهي في ساعة واحدة (حسب الحظ)، هي إذن لعبة من ألعاب النَفَس الطويل جدا، تعلّم الصبر والحنكة والذكاء، بالإضافة إلى تكريسها لأمرٍ مهمٍ جداً، بتنا نفتقده اليوم كثيرا وهو "ثقافة الاجتماع والمشاركة"، التي قضى عليها عصر العولمة بتقنيّات الكومبيوتر وزمن الهواتف الذكية والشاشات اللوحية والتطبيقات والألعاب التي لا حصر لها..الخ..
من ذكريات المشاغبة في اللعب أيضا، كيف أن اللعبة تعلّم الطفل المراوغة ومحاولة التذاكي على الخصم، اليوم أتذكر بمرارة أن هذه اللعبة وأمثالها ساهمت بتشكيل نسبة معينة من الذكاء الفطري الذي اكتسبته أجيال الزمن الماضي.. سواء من تنويعات اللغة أو من المشاركة والتواصل مع الآخرين أو من حماسة المنافسة.
وبالمقارنة أرمق أطفالي الممدّدين بتكاسل واسترخاء عجيبين على الكنبة، وقد فقدوا حسّ المبادرة أو حتى الحراك فأقول في نفسي "لقد أسدى الماضي صنيعاً جميلاً لأبنائه ولو على صعيد البنية الجسدية!" أجيال اليوم أجيال تنابل! أجيال آيباد وسمارت فون وسماعات الأذن.. تصرخ عشرات المرات أمام الواحد، فبالكاد يلتفت لك مجرد التفاته وكأنه يصحو من سبات عميق! وإذا تعطّلت شبكة الإنترنت دقائق فقط، يصاب معظم الأطفال اليوم بـ "كريزة" الهوس الإدماني إياه.. إدمان التقنية والتطور الذي كم هللنا له ففغر فاه وابتلعنا!
اليوم، وأنا أسترجع الكلام والذكريات عن لعبة البرجيس: اللعبة والدور والمعنى، أطرح أسئلتي بكل جديّة:
منْ مازال يلعب هذه اللعبة؟ من يملكها في بيته؟ من لعبها قديما ونسيها اليوم؟ ولماذا؟ وهل ما زال أهل بلاد الشام في سورية ولبنان على ودّهم القديم لها؟ فهي بالتحديد جزء من تراثهم وتاريخهم وسهرات أنسهم ولياليهم وجزء من أيام مضت، وقد لا تعود..
مساكين أنتم يا أطفال الآيباد.. لم يتبقّ منكم طفل بلا نظارات!
اقرأ أيضا:الأطفال الإسكندنافيون..إجازة خارج الجدران
ومنذ أسابيع عاينتُ أطفالي في القرية وقد هدتْهم فطرتهم إلى جعل غالونات المياه البلاستيكية (زحلوقات) في أزقّة الضيعة فلمست في نفوسهم سعادة لم أعهدها من قبل وضحكات مدويّة لم يطلقوا مثلها من قبل، بالطبع الألعاب مع عناصر الطبيعة كالماء والرمل والأشجار والأحجار لا تماثلها متعة، وهذه فرصة للامتنان لأنني عرفت بعض هذه الألعاب ولعبتها.. طفولة القرية يقضيها الطفل بين الحقول والبساتين أما طفولة المدينة قديما فكنا نقطع مللها بلعبة "البرجيس" أو المونوبولي أو اللعب بالأحجار البحرية.
أما لعبة البرجيس المحببة إلى قلبي فقد أصبحت شيئاً من التراث، ومن المقتنيات الأثرية.. يقال إن أصلها فارسي، لكنها لعبة تقليدية شائعة جدا في بلاد الشام إلى درجة أن بعضهم يقول إنهم كانوا يضعونها في جهاز العروس!
اليوم وأنا أتذكر طفولتنا ومراهقتنا التي رافقت تلك اللعبة طويلاً، أتذكر أنني كلبنانية، فهي ترتبط عندي بأيام الحرب ولياليها، حيث كان الخروج مستحيلا أو قليلا جدا.. وكان العمر يمضي إما في الملاجئ أو على السلالم احتماءً من القصف والقذائف.. وحدها البرجيس كانت الملاذ والسلوى..
فالجدير ذكره أن "دق" البرجيس يستغرق أحيانا ساعات وقد ينتهي في ساعة واحدة (حسب الحظ)، هي إذن لعبة من ألعاب النَفَس الطويل جدا، تعلّم الصبر والحنكة والذكاء، بالإضافة إلى تكريسها لأمرٍ مهمٍ جداً، بتنا نفتقده اليوم كثيرا وهو "ثقافة الاجتماع والمشاركة"، التي قضى عليها عصر العولمة بتقنيّات الكومبيوتر وزمن الهواتف الذكية والشاشات اللوحية والتطبيقات والألعاب التي لا حصر لها..الخ..
من ذكريات المشاغبة في اللعب أيضا، كيف أن اللعبة تعلّم الطفل المراوغة ومحاولة التذاكي على الخصم، اليوم أتذكر بمرارة أن هذه اللعبة وأمثالها ساهمت بتشكيل نسبة معينة من الذكاء الفطري الذي اكتسبته أجيال الزمن الماضي.. سواء من تنويعات اللغة أو من المشاركة والتواصل مع الآخرين أو من حماسة المنافسة.
وبالمقارنة أرمق أطفالي الممدّدين بتكاسل واسترخاء عجيبين على الكنبة، وقد فقدوا حسّ المبادرة أو حتى الحراك فأقول في نفسي "لقد أسدى الماضي صنيعاً جميلاً لأبنائه ولو على صعيد البنية الجسدية!" أجيال اليوم أجيال تنابل! أجيال آيباد وسمارت فون وسماعات الأذن.. تصرخ عشرات المرات أمام الواحد، فبالكاد يلتفت لك مجرد التفاته وكأنه يصحو من سبات عميق! وإذا تعطّلت شبكة الإنترنت دقائق فقط، يصاب معظم الأطفال اليوم بـ "كريزة" الهوس الإدماني إياه.. إدمان التقنية والتطور الذي كم هللنا له ففغر فاه وابتلعنا!
اليوم، وأنا أسترجع الكلام والذكريات عن لعبة البرجيس: اللعبة والدور والمعنى، أطرح أسئلتي بكل جديّة:
منْ مازال يلعب هذه اللعبة؟ من يملكها في بيته؟ من لعبها قديما ونسيها اليوم؟ ولماذا؟ وهل ما زال أهل بلاد الشام في سورية ولبنان على ودّهم القديم لها؟ فهي بالتحديد جزء من تراثهم وتاريخهم وسهرات أنسهم ولياليهم وجزء من أيام مضت، وقد لا تعود..
مساكين أنتم يا أطفال الآيباد.. لم يتبقّ منكم طفل بلا نظارات!
اقرأ أيضا:الأطفال الإسكندنافيون..إجازة خارج الجدران