على الرغم من الخلافات السياسية التي يشهدها البرلمان التونسي، تُطرح عليه في آجال قريبة جملة من الملفات الكبيرة التي تستوجب البحث عن توافقات لتسويتها، من بينها عدد من القوانين الهامة واستكمال الهيئات الدستورية وتجديد بعضها. ومن أبرز هذه الملفات، تجديد تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وانتخاب رئيس جديد لها خلفاً لنبيل بفون الذي تولى المهمة في يناير/كانون الثاني 2018، وقاد هذه الهيئة الدستورية في فترة انتقالية صعبة.
وكان مكتب البرلمان، برئاسة راشد الغنوشي، قد قرر قبل فترة فتح باب الترشح لتجديد ثلث أعضاء الهيئة العليا للانتخابات التسعة، وانتخاب رئيس جديد خلفاً لبفون. وتقرّر فتح باب الترشيحات فور صدور القرار بالرائد الرسمي (المجلة الرسمية للجمهورية التونسية)، مع تحديد أقصى أجل لتقديم الترشيحات نهاية شهر أغسطس/آب الحالي.
وانتهت ولاية بفون وعضوين آخرين، بحسب القانون، في يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك في إطار التداول والتجديد الدوري كل سنتين لثلث تركيبة هيئة الانتخابات، التي تضم تسعة أعضاء، بهدف ضمان حيادها واستقلاليتها.
وقال رئيس هيئة الانتخابات نبيل بفون، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه قام بواجبه خلال ولايته، وسيواصل العمل بالجهد نفسه في رئاسة الهيئة إلى حين تسليم المهمة للرئيس الجديد، مشيراً إلى أنه كان من المفترض أن تنتهي ولايته مبدئياً في يناير الماضي. ولفت إلى أنّ "قانون الهيئة أخذ بعين الاعتبار الاستثناءات، فنصّ على أن يُتم الأعضاء الموجودون مهامهم إلى حين التحاق الأعضاء الجدد، مما يفترض مواصلة جميع الأعضاء القيام بمسؤولياتهم من باب تفادي الفراغ في هيئة بالغة الأهمية تسهر على الانتخابات".
دعا بفون الوافدين الجدد على الهيئة، للمحافظة على استقلاليتها والنأي بها عن التجاذبات السياسية
ودعا بفون "الوافدين الجدد على الهيئة، للمحافظة على استقلاليتها والنأي بها عن جميع التجاذبات السياسية، حتى نضمن انتقالاً ديمقراطياً حسب المعايير الدولية". وأوضح أنّ "الهيئة عملت في ظروف استثنائية للغاية، فعندما كنا نعدّ للانتخابات التشريعية والرئاسية على اعتبار علمنا بالموعد الدوري للانتخابات العام الماضي، فوجئنا بوفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، ووجدنا أنفسنا أمام إكراه دستوري بإجراء الانتخابات في غضون ثلاثة أشهر، كما فوجئنا بأنّ القانون الانتخابي لا يسمح بذلك، فقمنا بتعديل هذا القانون في وقت قياسي، ونجحنا في تنظيم انتخابات الرئاسة في الآجال المحددة".
ولفت بفون إلى أنّ "الصعوبات التي اعترضت الهيئة لم تقف عند الآجال، بل شملت مشاكل أخرى جعلتها استثنائية وذات خصوصية، من خلال صراع الأحزاب حول تمثيلها والترشحات في حركة نداء تونس والجبهة الشعبية وأحزاب أخرى... كما وجدت الهيئة نفسها أمام صعوبات وضغوط إضافية، إذ كان أحد مرشحي الرئاسة في السجن، وطُلب من الهيئة إبداء موقفها في هذا الأمر، وفي الوقت نفسه، كنا منشغلين بتنظيم الانتخابات البلدية الجزئية".
وعلى الرغم من الخلافات الداخلية الأخيرة التي شهدتها الهيئة والاتهامات التي حامت حول بفون، فإنه يعدّ شخصية توافقية، ونجح في كسب احترام قيادة البلاد، بفضل مراكمته لتجربة صلبة في المجال الانتخابي، تعدّ الأطول مقارنةً بجميع الأعضاء، إذ ساهم في كل المحطات الانتخابية التي عاشتها البلاد بعد الثورة.
وعرفت هيئة الانتخابات خلافات داخلية عميقة خلال الفترة الانتخابية الماضية كادت تعصف بتماسكها وبالمسار الانتخابي، إذ نشأ صراع بين أعضاء الهيئة ورئيسها، بلغ حدّ التوجه للقضاء والتلويح بحجب الثقة عن عضوين، هما عادل البرينصي ونبيل العزيزي، إثر اتهامهما بفون بالتفرد بالرأي وسوء التصرف المالي والإداري وبتعاونه مع مؤسسة دولية لها أدوار "خفية" ومشبوهة. وبلغت الاتهامات حدّ التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية بالخارج وفي تعيين رؤساء هيئات فرعية. لكن بفون نجح في لملمة الخلافات والتصدّع الداخلي للهيئة، وتمكّن من مواصلة العمل وإعادة انتخاب عدد من البلديات، التي تمّ حلّها بسبب الاستقالات الجماعية فيها في عدد من المحافظات، وفي بعضها الآخر الذي عرف شواغر أخيراً.
يتم انتخاب رئيس الهيئة الجديد في البرلمان بالأغلبية المطلقة
وانتخب بفون في 9 مايو/أيار 2011 من قبل "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" عضواً في أول هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات بعيداً عن تدخل وزارة الداخلية، ثمّ أعيد انتخابه مرة أخرى في 8 يناير/كانون الثاني 2014 عضواً في الهيئة، إلى أن انتخب في 30 يناير/كانون الثاني عام 2018 رئيساً للهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
وتعطّلت عملية تجديد الهيئة أخيراً بسبب جائحة كورونا التي علقت غالبية أنشطة البرلمان وأثّرت على سير مختلف مؤسسات البلاد. وينتخب البرلمان التونسي أعضاء الهيئة الجدد بأغلبية الثلثين، أي بـ145 صوتاً على الأقل، في وقت يتم انتخاب رئيس الهيئة الجديد بالأغلبية المطلقة أي 109 أصوات، من بين الأعضاء المنتخبين.
وفرض القانون الانتخابي أغلبية معززة، على الرغم من صعوبة تجميع الأصوات، لضمان استقلالية الأعضاء وحيادهم عن الأحزاب السياسية، ما جعل الكتل والأحزاب غير قادرة بمفردها على تمرير أي مرشح في غياب توافق الأغلبية المطلقة.
ويرى مراقبون أنّ هيئة الانتخابات التونسية مثلت استثناءً في المنطقة، بفضل نجاحها في تنظيم انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة، مع احترام الآجال الدستورية على الرغم من الصعوبات التي واجهتها. وتشهد المنظمات الدولية، المراقبة للانتخابات التونسية، بنزاهة الهيئة وحسن إدارتها للانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية وحتى انتخابات مجلس القضاء، على الرغم من الضغوط السياسية والتدافع الحزبي وفتوّة التجربة الديمقراطية.