أتى حين من الدهر على الجزائر صار فيه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أشبه بالمهدي المغيّب الذي ينتظر ظهوره. واصطنع أنصار الرئيس القصص، بصحيحها وكذبها، حول صحة وقرب فرجه. واشتبه على المشككين فيه وفي سيرته، فبدأوا يسألون منذ أبريل/ نيسان 2013 أو ما قبله بقليل، حول ما إذا كان الرئيس حياً، وفي الجزائر أم في مستشفيات أوروبا؟ كيف يحكم الرئيس أم أن هناك من يحكم بدلاً عنه؟
ولا يوجد بلد يكرّس فيه الناس نصف يومهم للتساؤل عن غياب الرئيس ومن يحكم البلد، ومن يقرر ومن يصدر التعيينات ومن يقيل. لم يعد هذا السؤال سؤال العامة في المقاهي والأسواق والصحافيين في قاعات التحرير، بل سؤال يطرح في أندية الجيش وأروقة البرلمان ومكاتب الحكومة. حتى الحكومة نفسها لا تعرف من يصدر لها الأوامر والمناشير كما المنشور الرئاسي الأخير المسرّب للصحافة والمثير للجدل، والذي اتهمت فيه الرئاسة الحكومة بالتحرش برجال الأعمال.
تبدو الجزائر كطائرة مختطفة، كان يعرف ربانها إلى حين، لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بهوية الربان الذي يقود طائرة البلد الآن بعد الاختطاف. فمنذ مايو/ أيار 2012 لم يلق الرئيس بوتفيلقة خطاباً واحداً، منذ ذلك الخطاب المثير الذي اعترف فيه أن جيله وصل إلى نهايته السياسية. ولم يقم بزيارة إلى المحافظات لتفقّد الأوضاع، ولم يؤد زيارة إلى الخارج بما تستحق بعض المحافل الدولية من حضور. ولم تتعدَّ اجتماعات مجلس الوزراء أصابع اليد، وتدار شؤون الحكم عبر البيانات. ومع ذلك تصر مجموعات "العبودية السياسية" على أن الرئيس يشتغل أكثر من الأصحاء، ويقود البلد "بحكمة وتبصّر"، لكنها نفسها لا تعلم إلى أين يقود البلد.
ليست أزمة شرعية فحسب في بلد مدجج بالغموض السياسي كالجزائر فحسب، لكنها أزمة عمى أخلاقي وإفلاس حاد في الضمير الذي يتجاهل عميق المخاطر المكدسة على تخوم البلد وفي الداخل، وتكدّس في الأنا السياسي الذي يلغي التفكير في الأجيال والمستقبل، وتضخّم في الذات إلى الحد الذي يتكرر فيه المشهد الأخير من حكم الحبيب بورقيبة في تونس.
قبل وصول الرئيس بوتفليقة إلى الحكم عام 1999 كانت الجزائر قد بدأت مرحلة صلح مع تنظيمات إسلامية مسلحة، لكنها انتقلت بعد 1999 من مرحلة "الدم السياسي" إلى مرحلة "الصنم السياسي"، ومن "عنف المجموعات المسلحة" إلى "عنف الجماعات المتسلّحة بالمال والسلطة"، وتحوّل البلد من مرحلة "من يقتل من" إلى مرحلة "من يحكم من". وحين يصبح بلد ويمسي على تساؤلات من قبيل "من يحكم؟"، فتلك لعمري ربيع الكهنوت وخريف الدولة.