من نماذج الكفاح الفلسطيني: جدّتي المناضلة
في مقال سابق كتبت عن أهمية سرد أحاديث وذكريات الأجداد والجدات للحفاظ على الإرث التاريخي للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وعدالة، ويتضمن الحفاظ على الموروث التاريخي الحديث عن الأجداد والجدات كنماذج فلسطينية مؤثرة، ليس فقط الإبقاء على القضية حية، بل أيضاً على ماهية هذه القضية وعلاقة أبنائها وبناتها بها.
لا شكّ في أنّ للقراءة والكتابة أهمية كبرى في تشكيل الوعي، ولكن الوعي المجسد من خلال الحياة اليومية والتجارب الشخصية هو ما يعمق هذا الوعي ويحافظ عليه، وأحياناً يحمينا إذا ما سوّلت لنا أنفسنا أن نغرق في همومنا الشخصية والعملية. ومن هنا تأتي أهمية التجارب الشخصية للباحثين والباحثات حيث يكون لديهم القدرة على رؤية ما لا يراه باحثون وباحثات لم يعيشوا هذه التجارب أو يعايشوا تفاصيل حياة هذه النماذج.
من النماذج التي شكلت الوعي النسوي والفلسطيني، وهما قضيتان مترابطتان ومتشابكتان بالنسبة إليّ، نموذج جدتي الراحلة، الحجة ليقة. فقد كانت نموذجاً للمرأة الفلسطينية التي تتنفس بقضية فلسطين كما تتنفس الهواء، وكانت بجدارة شديدة تربط بين كل ما تعيشه في الحياة اليومية وبين كونها فلسطينية. فمن خلال فلسطين كانت تقوم بتوضيح كل شيء لتصبح فلسطين هي العدسة التي ترى من خلالها كل شيء، وهذا أهم ما ورثتُه عنها. جدتي كانت نموذجاً لم أرَ مثيلاً له في الكتب النسوية الغربية، أو حتى العربية التي تعالج قضايا المرأة، وبالرغم من دراستي لقضايا النسوية والجندر في الغرب، إلا أن تغييب وجودها ووجود مثيلاتها من النساء في الكتابات النسوية الغربية هو ما نبّهني بداية إلى قصور النظرة النسوية الغربية إلى قضايا المرأة في المنطقة العربية عموماً، وفلسطين خصوصاً.
"الفلسطيني لا يجوع" كانت جدتي تكرر هذه الجملة مرارًا، مع ربط عميق للصمود والعمل وما يعنيه أن تكون فلسطينياً
كانت جدتي تنادَى بالحجة ليقة، ولم يكن بالشيء المعتاد أن تنادَى امرأة باسمها، فهم ينادونها باسم ابنها، لكن شخصيتها، حنكتها السياسية وما صنعته لنفسها من موقع في العائلة جعلت من مناداتها باسمها تعبيراً عن تقدير لهذه الشخصية. فقدت جدتي زوجها وابنَيها في حرب عام 1948 والحوادث المتتالية من تشريد، وبقيت في لبس الحداد حتى توفّيت عام 1992.
لم يكن الحداد تعبيراً فقط عن حزن وفقدان، لكن كان أيضاً تعبيراً عن موقف مما جرى لها ولشعبها. كانت تقول إنها ستخلع ثياب الحداد عندما تتحرّر فلسطين. وربما كان الحداد أيضاً تعبيراً عن طبيعة شخصيتها كامرأة، حيث إنها استطاعت أن تتجاوز صورة المرأة التقليدية ليكون حدادها عاملاً من عوامل استقلال شخصيتها. وربما سيكون لشخصية جدتي كامرأة مقال آخر، لكنني سأركز هنا على بعض الأبعاد الشخصية لها والمرتبطة بالنضال الفلسطيني عموماً.
"الفلسطيني لا يجوع" كانت جدتي تكرر هذه الجملة مراراً، مع ربط عميق للصمود والعمل وما يعنيه أن تكون فلسطينياً. بهذه الكلمات كانت جدتي تبدد كل مآسي الحياة لتشعرك بالغنى والرضى الذاتي، ولكنّها تحثّك في الوقت نفسه على العمل والتطور. الفلسطيني لا يجوع يعني أنه لا يُهان وليس من السهل إخضاعه. كانت تذكر لنا بالأمثلة كيف زرعت الأرض هي وعائلتها ومن كان معهم في المخيمات، في كل بقعة مكثوا فيها خلال تشريدهم من قرية عراق المنشية حتى لو كان بقاؤهم فيها لفترة وجيزة. وهذه فلسفة مهمة في النضال، فأن تكون قادراً على أن تزرع وتأكل مما تزرع، وألّا تنتظر المعونات، وأن تكون منتجاً وتدرك أهمية الإنتاج في حياتك ونضالك يعني أن تبقى مستقلّاً وتحافظ على شروط بقائك وبقاء قضيتك.
ربما لم يكن هناك ما هو أشد قسوة على القضية من التحول من الإنتاج إلى الاستهلاك، أو الاستهلاك أكثر من الإنتاج. وبالرغم من أن التحول نحو الاستهلاك مشكلة عالمية مرتبطة بشروط النظام العالمي الجديد، الذي غرّب المجتمعات عن مصادر إنتاجها وربطها بمنتجات وأشكال حياة جديدة غريبة عنها، وقد أصبحت أساسيات لا يمكن الاستغناء عنها، وبالتالي شكلت القيود التي تحدد مجرى حياتهم بخضوعهم للسياسات الاقتصادية العالمية.
"فلسطين أكبر من الجميع"، هذه ليست مقولة خاصة لجدتي، لكنها كانت شعار حياتها، تثبّتها على مواقفها وتخفف عنها الخذلان من بعض المواقف العربية
في الحالة الفلسطينية كانت لهذا البعد تجلياته وآثاره على القضية ومسارها من خلال مسألتين أساسيتين: الأولى هي الاعتماد الكليّ على الدعم الخارجي وتهميش دور الإنتاج المحلي، والمسألة الثانية والمرتبطة بالأولى هي تحويل الدعم المالي من شكل من المساندة والتضامن السياسي إلى شكل من المساعدات الإنسانية. وهنا لم يعد الدعم لفلسطين دعماً للقضية، بل من أجل سدّ الاحتياجات الأساسية من طعام وشراب وغيره، وليس في سد الاحتياجات من خطأ إذا كان هذا الشكل يوضع ضمن تسييس الاحتياجات وضمن حملة المساندة والتضامن، كواجب سياسي ووطني، ولكن عندما تقتصر الحالة على البعد الخيري الإنساني الضيق فهذا يفرغ الموضوع من جوهره الأساسي ويحوله من حق وواجب إلى منّة ومعونة. وقد كان للعديد من الجمعيات الخيرية والمنظمات الدولية الإنسانية الدور الكبير في إنتاج صورة جديدة تتعامل مع الفلسطيني كشخص محتاج للمعونة الإنسانية فقط، وقد نجد في هذه العوامل بعض التفسير لفهم كيف يحاول البعض الترويج للفلسطينيين بوصفهم "عالة" على الشعوب في المنطقة العربية.
"الفلسطيني لا يأخذ من الثورة بل يعطيها". قالتها جدتي لمندوب منظمة التحرير الذي جاء ليخبرها أن المنظمة ستتحمل نفقات عملية جراحية كانت ستُجرى لها في المستشفى. لا أنسى حدة حديثها في ذلك اليوم وشعورها بالإهانة، فكيف لها ان تأخذ من أموال الثورة وهي مناضلة وزوجة شهيد. اعتبرت أن ذلك ليس حقّاً لها، بل هو إسراف وتبذير في أموال الثورة. وبالرغم من أن هذا من المواقف التي أتذكرها باستمرار، إلا أنه يحضرني كثيراً في هذه الأيام، وخاصة عندما تخرج بعض الأصوات للحديث عن فساد الفلسطينيين عموماً، ومتاجرتهم بالثورة، متناسين التضحيات الكبرى التي قدمها ويقدمها الفلسطينيون يومياً، وأنه ما كانت القضية الفلسطينية لتستمر مدة ٧٢ سنة بدون هذا الحس بالواجب الشخصي في دعم القضية.
جدتي ليست استثناءً، بل هي تعبير عن الحالة العامة لعلاقة الفلسطيني بقضيته، "الفلسطيني لا يتاجر بقضيته". هذا ليس شعاراً لدى عموم الفلسطينيين، بل مسار حياة. الإشكالية الأساسية هي في قضية التعميم، وليست بوجود المشكلة، فإذا تاجرت بعض القيادات بالقضية وعززت الفساد في المؤسسات المختلفة، فهذا لا بد أن يتم بحثه ورؤيته ضمن الدور الأساسي لما يشكله الفساد كأداة للاستعمار الجديد في المنطقة للتحكم باستثماراتها، ومواردها وقراراتها السياسية، وفلسطين التي تُحكم مباشرة من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ليست استثناءً من هذه الحالة، بل هي واحد من تجلياتها. لذا، إذا كان التعميم ضمن الحالة العربية عموماً، فهو صحيح، ولكنه خاطئ إذا اقتصر على التعبير عن الثورة الفلسطينية، ذلك لأن الثورة والمقاومة ليست نظاماً، بل هي مسار حياة، ومن هنا ربما كانت التسمية الغالبة لها بالنضال الفلسطيني بما يعني استمرار الفكرة وديمومتها.
"فلسطين أكبر من الجميع"، هذه ليست مقولة خاصة لجدتي، لكنها كانت شعار حياتها، تثبّتها على مواقفها وتخفف عنها الخذلان من بعض المواقف العربية. بهذه الجملة كانت تنهي معظم نقاشاتها. فلسطين أكبر من الجميع، تعني أن هذه القضية مستمرة بكبر حجمها وأهميتها ومركزتيها، ليس فقط للفلسطينيين، بل للمنطقة والعالم.
ما كانت تمثله جدتي من مبادئ وأفكار وقيم، سيبقى تعبيراً عن الحالة العامة للنضال الفلسطيني، أما عداها من أمثلة فاسدة، مهادنة، ومساومة، فما هو إلا استثناءات عابرة وزائلة لتبقى فلسطين كفكرة وقضية دائماً أكبر من الجميع.