من مؤتمر نابلس إلى الـBDS

13 سبتمبر 2016
مظاهرة في كاب تاون، 2015، تصوير: ميتشلي رال
+ الخط -

المقاطعة، بالتعريف، عقوبة تفرضها دولة ما، أو مجموعة من الدول، على دولة ارتكبت عملاً يُعدُّ من وجهة نظرها غير شرعي؛ فهي إذاً تدبير احترازي هدفه الضغط على تلك الدولة لتعديل سياساتها.

وقد وردت الإشارة إلى المقاطعة في ميثاق عصبة الأمم (المادة 16) التي تقول: "إذا أقدم أي عضو في العصبة على اللجوء إلى الحرب متخطياً ميثاقها، يعتبر مرتكباً عمل حرب ضد سائر أعضاء العصبة الذين عليهم أن يخضعوه فوراً لقطع العلاقات التجارية والمالية، وقطع جميع الاتصالات بين مواطنيهم وبين مواطني الدولة العضو التي تخطت الميثاق، ومنع جميع الاتصالات المالية والتجارية والشخصية بين مواطني الدولة العضو المتخطية الميثاق، وبين مواطني أي دولة أخرى أَكانت عضواً في العصبة أم لم تكن".

وفي ميثاق الأمم المتحدة الصادر في سنة 1945 (المادة 41) ورد ما يلي: "لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً، وقطع العلاقات الديبلوماسية".

وقد استخدمت عصبة الأمم المادة 16، أي المقاطعة، ضد إيطاليا بعد عدوانها على الحبشة في سنة 1935، وعلى الاتحاد السوفييتي غداة غزوه فنلندا في سنة 1939.


البدايات الفلسطينية
ظهرت المقاطعة في فلسطين كتعبير سياسي عفوي وشعبي معاً، في حقبة مبكرة، وبالتحديد منذ سنة 1909 فصاعداً، واتخذت شكل عدم بيع الأراضي من اليهود. ثم تطورت حركة المقاطعة إلى مقاطعة المتاجر اليهودية وعدم الشراء من محال اليهود.

ففي 26/1/1920 عقدت الجمعية الإسلامية – المسيحية في نابلس مؤتمراً وطنياً اتخذ، من بين قراراته، قراراً بتطبيق المقاطعة على الصهيونيين اليهود. ودعا المؤتمر الوطني الفلسطيني الخامس في نابلس (22/8/1922)، إلى المقاطعة التجارية وإلى عدم بيع اليهود العقارات، ومقاطعة شركة كهرباء فلسطين (مشروع روتنبرغ).

وفي 27/11/1929، عُقد في القدس مؤتمر شارك فيه مندوبون من فلسطين وسورية ولبنان والأردن، وهؤلاء أقسموا على منع بيع اليهود أي أراضٍ فلسطينية، وعلى مقاطعة المنتوجات اليهودية. وفي 9/3/1932، دعت اللجنة العربية العليا إلى مقاطعة معرض تل أبيب الذي استقطب فاعليات عربية كثيرة.

وفي 8/9/1937، عقد مؤتمر بلودان الذي شارك فيه ممثلون لمصر والعراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين، ودعا المؤتمر في بيانه الختامي إلى منع المنتوجات اليهودية من الوصول إلى الأسواق العربية.

لم تكن مقاطعة البضائع اليهودية ناجحة في مرحلتها الأولى (1920-1945)، وتمكن الاقتصاد اليهودي في فلسطين من تحقيق نمو متسارع من دون إعاقة إلا في الحدود الدنيا، وسجّل تفوقاً في ثلاثينيات القرن العشرين على الاقتصاد الفلسطيني، ومارس الصهيونيون مقاطعة مضادة من خلال تنفيذ سياسة "العمل العبري" بين 1920 و1924، أما في المرحلة الثانية (1945-1948)، فقد تبنت جامعة الدول العربية في 2/12/1945 المقاطعة رسمياً، وألَّفت لجنة دائمة للإشراف على تنفيذ قرار المقاطعة.

وبالفعل بدأت تلك اللجنة أعمالها في 5/1/1946، وجرى، لاحقاً، تأسيس المكتب الدائم للمقاطعة الذي اتخذ دمشق مقراً له. وفي المرحلة الثالثة (1948-1991) أصبحت مقاطعة إسرائيل جزءاً من سياسة جامعة الدول العربية، ولا سيما بعد صدور القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل الذي صاغته الجامعة في 11/12/1945، والذي وضع نظام القوائم السود، وراح يُدرج فيها الشركات التجارية والبواخر وشركات الطيران والممثلين وشركات الإنتاج السينمائي وغيرها.


في الميزان
نجحت المقاطعة العربية في منع شركات كبرى من الاستثمار في إسرائيل. إلا أن اعتماد إسرائيل، ولا سيما في بداياتها، على المساعدات الأميركية والألمانية والفرنسية والبريطانية، عوض خسائرها الناجمة عن المقاطعة. وعلاوة على ذلك، اعتبرت الدول الغربية مبدأ المقاطعة نفسه متعارضاً مع حرية التجارة.

وقد عمدت إسرائيل في سنة 1965 إلى استعمال نظام المقاطعة المضادة. ومهما يكن الأمر، فقد تخلخلت فاعلية المقاطعة بعد توقيع أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل في سنة 1979.

وكانت المقاطعة أحد جوانب العمل العربي المشترك والنظام الرسمي العربي، لكن هذا النظام انهار في سنة 1990 بعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت وتسببه في حرب 1991.

وتهلهلت المقاطعة كثيراً بعد توقيع اتفاق أوسلو في سنة 1993. وحتى قبل ذلك كانت تُخرق بصور شتى؛ فكانت البضائع الإسرائيلية تشحن إلى قبرص أولاً، ثم يُعاد تصديرها إلى الدول العربية بعد وضع لاصقات عليها تؤكد أنها منتوجات قبرصية. ولاحقاً صار في إمكان المنتوجات الإسرائيلية أن تغمر الأسواق العربية، خصوصاً أسواق الخليج العربي، عبر الأردن، حيث كان يجري تغيير أغلفة المنتوجات في منطقة التجارة الحرة الإسرائيلية – الأردنية.


الطور الجديد
في سنة 2004، انطلقت "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" (PACBI)، من مدينة رام الله. وفي 9/7/2005، أي في الذكرى الأولى لصدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في شأن الجدار العازل الإسرائيلي، صدر نداء "الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (BDS)، واختصارها بالعربية (م. س. ع.)، فالميم تعني "مقاطعة"، والسين تعني "سحب الاستثمارات"، والعين "عقوبات".

وقد تمكنت "اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة من عقد مؤتمرها الأول في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، وتجاوبت معها "حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان" التي فضحت الشركات الداعمة بالأسماء، ودعت إلى مقاطعة تلك الشركات، أمثال نستلة وماكدونالدز وكوكاكولا ومقاهي ستار بكس واستيه لودر وفيليب موريس وبيرغر كينغ وغيرها.

كان تقرير قناصل الدول الأوروبية في القدس ورام الله الذي صدر في سنة 2011 مفصلاً مهماً جداً في سياق حملة المقاطعة؛ فقد دعا دول الاتحاد الأوروبي إلى التعامل مع القدس الشرقية باعتبارها العاصمة المقبلة لدولة فلسطين، وأوصى بمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، كالفنادق التي تستعملها الوفود الزائرة، وبالامتناع عن زيارة المواقع السياحية والأثرية التي يسيطر عليها المستوطنون، ومنع تصدير منتوجات المصانع الإسرائيلية في القدس إلى الدول الأوروبية، ومنع المستوطنين المتطرفين من دخول الاتحاد الأوروبي.

وكان لهذا التقرير أثر كبير في تطور عمل حملة المقاطعة، فقد أصدر الاتحاد الأوروبي في 30/7/2013 تعليمات للامتناع عن تمويل أو تعاون أو منح تسهيلات مالية أو دراسية أو بحثية أو أي جوائز لأي طرف إسرائيلي في المستوطنات، ودخلت تلك التعليمات إلى حيّز التنفيذ في 18/7/2013.

وفي اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي (27 دولة قبل انسحاب انكلترا)، في كانون الثاني/ يناير 2013، جرى التأكيد على حظر استيراد منتوجات المستوطنات الإسرائيلية البالغة نحو 400 مليون دولار سنوياً.

نتيجة لحملة المقاطعة الدولية، اتخذ صندوق المعاشات التقاعدية في سويسرا قراراً في آذار/ مارس 2010 بمقاطعة شركة "ألبيت" الإسرائيلية لدورها في بناء الجدار العازل، وببيع سنداته المالية في هذه الشركة.

وفي أيار/ مايو 2010، باع بنك دويتشه الألماني جميع أسهمه في شركة "ألبيت"، وسحب صندوق التقاعد النرويجي استثماراته في تلك الشركة في أيلول/ سبتمبر 2010. وفي هذا السياق، بدأت بعض المصانع الإسرائيلية في الضفة الغربية، مثل "صودا ستريم" و"بركان"، نقل معداتها من المستوطنات إلى أماكن أخرى لتفادي قرار المفوضية الأوروبية وضع لاصقات على المنتوجات تشير إلى أماكن إنتاجها.

وهكذا صارت إسرائيل في وضع حرج جداً، فإذا عملت على وضع لاصقات تشير إلى أن تلك البضائع منتجة في إسرائيل، فإن ذلك الأمر يعتبر تزويراً وخداعاً، وإن التزمت قرار المفوضية الأوروبية، فهذا يعني حرمان منتوجات المستوطنات التصدير إلى أوروبا.

علاوة على ذلك، تبنى اتحاد معلمي إيرلندا نداء المقاطعة، وأنهت جامعة جوهانسبيرغ في جنوب أفريقيا علاقاتها الأكاديمية بجامعة دافيد بن غوريون، وانضم عالم الفيزياء العبقري ستيفن هوكينغ إلى مؤيدي المقاطعة.

ولا ريب أن حملة المقاطعة الدولية ساهمت في إفقاد إسرائيل جزءاً مهماً من الرأي العام العالمي، خصوصاً بعد عدوانها على لبنان في سنة 2006 وعدوانها على غزة في سنة 2008. لكن إرهاب الجماعات الإسلامية أعاق هذا المسار ولو جزئياً.


أداة نضالية
استندت حركة المقاطعة إلى القانون الدولي في عملها التنفيذي وإلى مبادئ حقوق الإنسان. وفي المرات التي نجحت فيها حركة المقاطعة في تطبيق بعض جوانبها، فإن ذلك كان يعني تطبيقاً عملياً للقانون الدولي.

وعلى سبيل المثال، شددت حركة المقاطعة على أن اسرائيل دولة فصل عنصري (أبارتهايد). والفصل العنصري يعتبر، بحسب القانون الدولي، جريمة ضد الإنسانية. لذلك كانت إجراءاتها متعددة الوجوه لمعاقبة إسرائيل شأناً منطقياً في سياق هذا الميدان.

وقد اكتسبت حركة المقاطعة الدولية BDS حضوراً دولياً مهماً، وباتت تمثل النشاط الفلسطيني- الأممي الأكثر نجاحاً على المستوى الدولي، وتمكنت من التأثير في وعي كثيرين من الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم أوروبيي الثقافة، أو يشعرون بأنهم ينتمون إلى أوروبا.

ومهما يكن الأمر، فقد تحوّلت المقاطعة أداة نضالية في أيدي الفلسطينيين، وشكلاً مستحدثاً من أشكال التضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني، مع أن تلك الحركة لا تعتبر منظمة مدنية NGO، ولا تعتمد على ممولين محددين ذوي أهدف سياسية.

صحيح أن حركة المقاطعة لن تستطيع تغيير الواقع السياسي، إلا أنها تساهم في دعم نضال الفلسطينيين في سبيل حقوقهم. وقد آذت حركة المقاطعة إسرائيل بقوة، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، الأمر الذي جعل الكنيست يصوغ قانوناً يجرِّم المقاطعة، ويجرم أي شخص يشارك في حملاتها، أي أن في إمكان السلطات الاسرائيلية تقديم كل من يشارك في نشاط المقاطعة إلى المحاكمة. وهذا الأمر ينطبق على فلسطينيي 1948 وسكان القدس بالدرجة الأولى. أما الأجانب فيمكن حرمانهم من الدخول إلى إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة الأميركية حاول أنصار إسرائيل صوغ قانون يجرِّم المقاطعة فيحجب عن أية منظمة مدنية أو مؤسسة تؤيد BDS التمويل، ويتم إدراجها في اللوائح السود. لكن هذا الأمر يواجه مصاعب جمة منها أن تجريم المقاطعة يعني تجريم حرية الرأي.

في خضم هذه التطورات أعلنت الحكومة الاسرائيلية في حزيران/يونيو 2013 أن حركة المقاطعة باتت خطراً استراتيجياً يمكن أن يتطور ليصبح خطراً وجودياً. ووصف شمعون بيريز المقاطعة بأنها شكل من أشكال الحرب غايتها نزع الشرعية عن اسرائيل (8/6/2015).

واللافت، مع الأسف، أن حركة المقاطعة التي راحت تتسع بالتدريج في الميدان الدولي كان يقابلها ازدياد روابط اسرائيل الاقتصادية والعلمية والأكاديمية والثقافية والسياسية والعسكرية بدول أفريقيا وآسيا بما في ذلك بعض الدول العربية.

والمعروف أن كثيراً من الشركات الداعمة لإسرائيل ما زالت تعمل في عدد من الدول العربية، كما أن كثيراً من الشركات الداعمة لإسرائيل مازالت تعمل في عدد من الدول العربية، ومن الضروري إطلاق حملة لإقصاء هذه الشركات عن الأسواق العربية، ومنعها من التقدم إلى المناقصات، وتوقيع العقود التجارية.

وعلى سبيل المثال، ثمة شركتان فرنسيتان تنفذان مشروع القطار الاسرائيلي الذي سيربط مدينة القدس بالمستعمرات المحيطة بها، وقد رسى عليهما عقد إنشاء سكة حديد تربط مدينة مكة بالمدينة المنورة. والشركتان هما فيولا وألستوم. لكن شركة فيولا باعت أسهمها في مشروع القدس تفادياً لأي أضرار قد تلحق بها في الدول العربية، أما ألستوم فما برحت ماضية في أعمالها.


المقاطعة مقاومة
المقاطعة ومقاومة التطبيع تندرجان في سياق سياسي واحد. وكانت الحاجة إلى رفض التطبيع ومقاومته قد نشأت بعد أن وقعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل في سنة 1979. وهذه المعاهدة، علاوة على اتفاق أوسلو في سنة 1993 واتفاق وادي عربة في سنة 1994، أفسحت في المجال لتأسيس علاقات متشعبة بإسرائيل على المستوى السياسي (سفارات)، وعلى المستوى الاقتصادي (سياحة وتبادل تجاري)، الأمر الذي يجعل المجتمع المدني العربي يتولى بنفسه مهمة مقاومة التطبيع مع إسرائيل.

ومع ذلك لم تتبلور حركة المقاطعة إلا في سنة 2004 فصاعداً. والتطبيع يعني، في أبسط صوره، مشاركة الإسرائيليين في الحقول الثقافية والاقتصادية والسياسية، أو في ورش عمل أو مؤتمرات ثنائية، خصوصاً إذا كان هؤلاء الإسرائيليون ممن لا يتبنون الحقوق الوطنية الفلسطينية.

أما رفض التطبيع فيعني، في أبسط صوره أيضاً، عدم الظهور في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعدم التعاون مع المؤسسات الأكاديمية أو الأمنية أو السياسة الإسرائيلية، ورفض الرواية الصهيونية عن النكبة الفلسطينية.

ولا ريب في أن رفض التطبيع لا ينطبق على فلسطينيي 1948 لأن المواطن في تلك الديار مضطر في كل يوم إلى التعامل مع المؤسسات الإسرائيلية، كالمدارس والجامعات والمستشفيات والوظائف... إلخ. وينطبق هذا الأمر جزئياً على الفلسطينيين في الضفة الغربية المضطرين قسراً إلى التعامل مع السلطات المحتلة في الشؤون اليومية.

وبهذا المعنى، فإن مقاومة التطبيع هي مهمة عربية وأممية بالدرجة الأولى. والمقاطعة لا تشمل الإسرائيليين، الذين يقفون إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني وهم كثر.

غير أن المشكلة تكمن في "الجلبيين العرب"، الذين نشتقُّ هذه الصفة لهم من أحمد الجلبي قيدوم الاحتلال الأميركي للعراق، وهؤلاء صاروا اليوم مثل عدس الشام على غرار مثال الألوسي وانتفاض قنبر وكنعان مكية، الذين شكلوا رأس حربة لمجموعة كثيرة العدد من "الجلبيين الجدد" من طراز كمال اللبواني وفريد الغادري وأنور عشقي وزياد الدويري ونجم والي وبو علام صنصال ونادية الفاني وفرحات مهني وجان بيار ليدو وعز الدين بن سويح.

ولهؤلاء العاشقين الجدد المغرمين بالإسرائيليين نكتفي بالقول: إذا كنتم مصرّين على ما أنتم عليه، فعلى الأقل امتنعوا عن القبلات والابتسامات البلهاء أمام الكاميرات!

(كاتب وباحث فلسطيني/ بيروت)

دلالات
المساهمون