من كتاب الإسلام والحداثة

09 مارس 2015
+ الخط -
إن العديد من المواقف التي وقفها المسلمون كانت متأثرة بالوضع السياسي السائد، وكثيرا ما كان الحكام يوعزون بها بصفة مباشرة أو غير مباشرة لتبرير سلوكهم وصبغه بصبغة الشرعية الدينية. وبصفة عامة، ورغم التناقض الجلي في مواطن عديدة بين مصلحة الحكام ومصلحة علماء الدين، فقد كان يوجد تضامن عضوي بين الطرفين لانتسابهما إلى الفئة نفسها الاجتماعية المتأثرة بالمعرفة والنفوذ، في حين تقصي عنها النساء والعبيد والعامة، أي أوفر الأصناف الاجتماعية عددا. 
لعب رجال الدين من فقهاء ومحدثين ومفسرين ومتكلمين دور السلطة الكنسية المحدد للإيمان القويم والمشهِّرة بالمخالفين. وقد أوكلوا لأنفسهم بالخصوص مهمة الكلام باسم الله، وأسبغوا على آرائهم ومقالاتهم صفة القداسة، فاعتبروا مثلا القوانين التي سنّوها أحكاما شرعية لأنها مستنبطة من الأصول الإسلامية، وبالأخص من القرآن والسنة النبوية وانعقد عليها الإجماع.
إن تواصل السنّة الثقافية الإسلامية على النمط نفسه تقريبا حتى عصر النهضة العربية الحديثة وخلال فترات الازدهار الحضاري على السواء، مردّه أساسا إلى أن الأوضاع التاريخية وأنماط الإنتاج وطرق العيش لم تتغير إلا بظهور الحضارة الصناعية وما صاحبها من ثورة علمية وتقنية زلزلت أركان النمط المعرفي التقليدي، فحلّ الوعي التاريخي محل الضمير الأسطوري، وساد المنهج التجريبي في علوم الطبيعة والعقلاني الاستفهامي في علوم الإنسان على حساب الثقة في نظريات المتقدمين والاكتفاء بحفظ النصوص وشرحها.
والنتيجة التي يمكن الخروج بها أنه لا حرج من إخضاع الممارسة السياسية التاريخية للإسلام للنقد والمراجعة والتقييم، وأن القداسة التي أضفاها عليها الزمن ينبغي ألا تحجب طبيعتها البشرية من نقص ومحدودية وحتى من زيغ وانحراف عن المبادئ التي أرادت أن تكون لها وفية. وهكذا يتسنى وضع "الإسلام" التاريخي بأكمله موضع التساؤل من حيث هو جملة المؤسسات التي عرفتها الدول المتعاقبة التي حكمت الأمة الإسلامية (خلافة أو إمامة، وزارة، إمارة، قضاء، مظالم، حسبة، إلخ) والتراث الذي أنتجه المفسرون والمحدثون والمتكلمون والفقهاء والمفتون والوعاظ والمؤرخون وغيرهم.
أما المستوى الآخر من الإسلام، فيتعلق بالبعد الفردي في الإيمان. وغني عن القول أن عملية استبطان للقيم والمبادئ الإسلامية تتأثر بالشخصية الأساسية والشخصية الفردية معا. لذا تختلف عقيدة المتصوفة عن عقيدة الفلاسفة أو الفقهاء مثلا، وفي نطاق كل صنف من هؤلاء يختلف إيمان كل متصوف وكل فيلسوف وكل فقيه عن نظيره. وإذا كانت عبارة "إيمان العجائز" تعني الإيمان البسيط الذي لا يعتري صاحبه الشك، فإن عنصر البداهة الذي يتميز به، والذي هو علامة الاندماج الاجتماعي الناجح، لا يتوفر لدى جميع الناس في جميع الظروف والأعمار والمستويات الذهنية، مما يجعل الإسلام في هذا المستوى مستعصيا عن التحليل، ولا يسع الباحث إزاءه إلا متابعة آثاره وتبين مدى الثراء الذي يحدثه الدين في النفوس على اختلاف أمزجتها ومشاربها، وكيف يكون بحثا قلقا عند بعضهم وتسليما مطمئنا عند آخرين، ومصدر معاناة عند صنف، وبلسما شافيا عند آخر، ومزيجا متفاوتا من هذه المواقف بكل الفروق الممكنة والدرجات حسب شخصية المؤمن الذاتية وثقافته وبيئته.
إن البحث في الإسلام في مستوياته الثلاثة المتميزة، سيكون لا محالة منقوصا إن اقتصر على دراسة الإنتاج الديني، ولم يولِ مظاهر التدين الاجتماعية ما تستحق من العناية. وهكذا يعسر إهمال الميادين التي يهتم بها علم الاجتماع الديني، والتي تبرز الإسلام الحي المعيش في الواقع المجتمعي، لا إسلام الكتب والعلماء والمنظرين، الإسلام كما هو لا الإسلام المثالي.


- حاورتة رشا التونسي
المساهمون