من فيتنام إلى سورية .. الصورة واحدة

11 سبتمبر 2015

الفيتنامية كيم فوك وصورتها في الحرب في 1972 (2013/أ.ف.ب)

+ الخط -
في بداية السبعينيات، وفي أوج حرب فيتنام، التقط مصور صورة لطفلة عارية تجري وتصرخ جرّاء حروق أصابت ظهرها، بفعل قنابل نابالم قصفت بها قوات أميركية وفيتنامية جنوبي بلدة، كانت تقيم فيها. وسرعان ما انتشرت الصورة، وتناقلتها وكالات الأنباء، وأحدث مشهد الطفلة صدمة كبيرة في الرأي العام العالمي، خصوصاً في الولايات المتحدة، ما مثّل منعطفا مهماً على درب بداية العد العكسي لنهاية واحدةٍ من أفظع حروب القرن العشرين، وأكثرها شراسة ومأساوية، فتعالت الأصوات مطالبة بوقفها، بعد تزايد أعداد الضحايا بين المدنيين بشكل مهول، وتحولت الصورة إلى إحدى أشهر الصور التي تختزل معاناة هؤلاء في الحروب، وترمز للسقوط الأخلاقي المريع لإنسانيةٍ، فقدت بوصلتها وسط صراع المصالح الذي لا ينتهي. 

وعلى الرغم من أن عدسات المصورين خلّدت صورا أخرى في ساحات الحروب، بين الجثث والأنقاض والنيران ولعلعة الرصاص، إلا أن صورة تلك الطفلة الفيتنامية ظلت الأبلغ والأكثر رمزية، ربما لكشفها عن الجانب المرعب في النفس البشرية والاستعداد الفطري للأخيرة للذهاب بعيداً في "ملحمة" الألم والخراب والدمار التي لا تستثني أحداً، بما في ذلك الأطفال.
تطل الصورة علينا اليوم، بملامح أخرى، وضمن سياق آخر، قد لا يقل مأساوية، طفل سوري ملقى على وجهه على شاطئ في منتجع تركي، بعد أن قضى غرقاً في زورق كان يقله صحبة والديه وشقيقه وآخرين، في أثناء محاولتهم الهرب من جحيم الحرب المدمرة التي تعصف بسورية، بالقوة نفسها التي وقفت بها الطفلة العارية في وجه العالم قبل أكثر من أربعين عاماً، لتفضح نفاقه وصمته عن النار التي كانت تلتهم شعبها في قرى فيتنام وبلداتها. بالقوة نفسها، "يقف" اليوم الطفل السوري عيلان، برأسه الصغير الذي تلامسه رغوة الموج، وسرواله القصير الأزرق وسترته الحمراء وروحه الصغيرة، ليفضح النظام والمليشيات المسلحة وإيران وروسيا والغرب والعرب والعالم، لتقصيرهم حيال معاناة اللاجئين ممن شرّدتهم الحرب، وقذفت بهم صوب المجهول. فعل ذلك ربما نيابة عن آلاف من أبناء الشعب السوري الذين فضلوا الهروب من نيران البراميل المتفجرة التي يلقي بها الطيران الحربي للنظام، ليموتوا غرقاً في البحر، أو جوعاً في غابات أوروبا الموحشة.
ماذا يمكن أن يقول صناع المأساة السورية، حيال قوة هذه الصورة ورمزيتها، والتي انتشرت في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي؟ هل ما زالت لديهم القوة والإصرار لإطالة أمد هذه المأساة، حتى يكون نصيبهم من كعكة المصالح والامتيازات أكبر، بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويصلوا إلى تسويات معينة بشأنها؟ أين الذين يصمّون آذاننا في أوروبا والغرب حول حقوق الإنسان والحرية والكرامة والديمقراطية والقيم الإنسانية المشتركة، وغير ذلك من الكلام "الكبير"؟ أين هي المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية المعنية بحقوق الطفل، وفي مقدمتها "بونيسيف"؟
ربما أثارت هذه الصورة جدلاً أخلاقيا وسياسياً غير مسبوق في الغرب، بشأن أزمة اللاجئين وأبعادها المختلفة، خصوصاً فيما يتعلق بتأثيرها على بلدان الاستقبال، لكن هذه الأزمة في النهاية، تحصيل حاصل لإرادات إقليمية ودولية، يقودها صراع المصالح الكبرى الذي يبدأ في الغرب، ليمتد إلى الشرق الأوسط والخليج. وإذا كانت لكل حرب فاتورة بشرية باهظة، فهذه الإرادات تتفق، أو تتوافق، على أن يدفع الشعب السوري هذه الفاتورة من دماء أبنائه وأرواحهم ودموعهم. بهذا المعنى، لا تلخص الصورة فقط وحشية هذه الحرب ومأساة اللاجئين ونفاق الساسة وخسّة أرباب المصالح، إنها تعيد إلى الواجهة الصدمة الأخلاقية والفلسفية والثقافية التي تخلفها الحروب، بصرف النظر عن سياقاتها وملابساتها المتباينة. إنها الصورة نفسها، وإن اختلفت ساحات القتال والفاعلون ولون بشرة الضحايا، تُطل لتجلب العار والخزي للعالم ومن فيه.
جزء كبير من مآسي الحروب وفظاعاتها لا توثقه عدسات المصورين والصحافيين، فتظل ضمن محتويات الصندوق الأسود للتاريخ، غير أن ما يتم توثيقه قد يصبح، أحياناً كثيرة، أشد إيلاما ورمزية ومدعاةً لرفع صوت الإدانة بمعناها الواسع، حدث ذلك في فيتنام أو سورية أو مكان آخر.