إن كانت الحرب العالمية الأولى قد افتتحت القرن العشرين، فإنّ سيد درويش، من جهةٍ أخرى، قد افتتحه في مصر. لعل أعماله، وإن ظلت تدين لجذور الغناء الشرقي، اتسمت بطابع المفاجأة، وهو ما ميز ذلك القرن. عدا عن أن نصف قرن من الغناء امتد من سيد درويش واختُتم في ما بعد النكسة، وما تلاها من صعود مفاجئ لظاهرة أحمد عدوية، وهي مسيرة شهدت الكثير من التحولات الموسيقية اللافتة يمكن سردها في بعض الأغاني المؤثرة، فالنهضة الموسيقية العربية شدها عصر متسارع.
عبرت ألحان سيد درويش عن أول صدام بين الغناء الرسمي والهامشي، وكانت صيغه اللحنية السهلة انعكاساً لتوسع الطبقة الوسطى في مصر، كما تزامنت مع صعود الروح الوطنية التي جسدها بثيمات شعبية. وتعتبر أغنية "الشيطان"، التي قدمها في مسرحية الباروكة عام 1921، واحدة من أكثر أعماله تأثيراً، وفيها أوجز ملامحه في دمج عناصر مصرية بثقافات متعددة عاشت وقتها في مصر جنباً إلى جنب.
يتدفق اللحن على مقام الكرد في صورة بولكا مصرية، مع حضور قوي لنكهة حوض الأبيض المتوسط. بداية متفجرة، ثم محاكاته لتعابير العوام اليومية، من دون التخلص من الغنائية، مع تحول إيقاعي مُحلى بالصنوج يدفع قوة التعبير الدرامي في صيغة زفة بهزلية سوداء.
لم تكن أغنية "الشيطان" أفضل ألحانه، لكنها تركت أثراً قوياً، سواء في بعض الأغاني السينمائية ذات المنحى الدرامي، أو في خطاب لحني تماشى مع ثورية الخمسينيات والستينيات. كان سيد درويش توسعياً في النهل من الغناء الشعبي، كما تمرد على بعض الأساليب التقليدية.
وعلى نحو مخالف لتوجه درويش في التبسيط، اتجه الغناء بعد رحيله المبكر إلى صيغ لحنية أكثر تعقيداً. الأرجح أن الغناء الرسمي بدأ يستعيد سلطته بعدما زعزعها أسلوب درويش. وساهم في ذلك ظهور أول مؤسسة رقابية على الأغاني عام 1926 في مصر، لتمارس دور التحريم على أي محتوى تجده فاضحاً وخادشاً. كانت أيضاً أم كلثوم تبتعد في صوتها عن أسلوب الخنقة المترسب من غناء الغواني.
عندما قدمت أم كلثوم مونولوج "إن كنت اسامح وأنسى الأسية" عام 1928، أصبحت النجمة الأولى دون منازع. في هذا اللحن، حاول القصبجي اقتفاء ملامح الغناء الأوبرالي من دون المساس بالنسيج اللحني الشرقي. يستمر التصعيد بداية الغناء على مقام الماهور، لفترة زمنية غير مسبوقة، لتهدأ في البيت الثالث مع التحول إلى مقام الراست عند "دبّل جفونها كتر النواح". ولحن هذا البيت استعاره السنباطي بعد أربعة عقود في لحن "واحد ما فيش غيره"، من مذهب أغنية "القلب يعشق".
ولدت التحولات الغنائية في مصر من رحم العشرينيات، فما أحدثته أغنية أم كلثوم لم يقتصر على تطور المضامين اللحنية، إذ ساهم نجاحها بتفجير السوق الغنائية، محققة وقتها توزيعاً قياسياً بلغ ربع مليون أسطوانة. ولعلها كانت دافعاً بالنسبة لعبد الوهاب في التوجه نحو التجديد المتسارع.
في العام نفسه، جاء رد عبد الوهاب بمونولوج "أهون عليك"، ليعلن عن ثوريته المُستلهمة من الموسيقى الغربية. تضمن لحن المونولوج جوانب غير مسبوقة في الغناء العربي، مثل السلم الكروماتيكي، والقفز ست درجات نغمية، وتحديداً عند تكراره مفردة "حالي" في البيت الرابع، وكذلك القفز المقامي من العجم إلى النهاوند ست درجات.
ومع أن الثلاثينيات شهدت توسعاً في حركة التجديد الموسيقي، إلا أن زكريا أحمد حافظ على روابط وثيقة بأساليب القرن التاسع عشر. تفاوتت ألحان زكريا بين بناء الصيغ اللحنية شديدة الجمال والأشكال الطربية شديدة التعقيد، لكن أحد ألحانه الأكثر حضوراً في تشكيل الذائقة العربية هو "يا حلاوة الدنيا"؛ إذ يمتاز بتراكيب مبهجة وخفة تتراقص لها الروح طرباً، من دون نسيان ابتكاره اللحني وإن بطراز عتيق، مع أنه ليس أقوى ألحانه.
على الضد، كان عبد الوهاب يطمح للتجديد، وصاغ في "عندما يأتي المساء" (1938)، شكلاً ثورياً لغناء القصيدة. يحظى هذا اللحن بكثير من الإجماع على أهميته، فمن ناحية اتسم اللحن بالتجديد الشكلي في استخدام نوع إيقاعي من الرومبا، وهو توجه بدأه في قصيدة "جفنه علم الغزل". ومن ناحية أخرى، حافظت الأغنية على حداثتها بكثير من سمات التطريب الشرقي.
يمتاز اللحن بالمظهر الديناميكي في كثير من المواضع، كما أن الجملة الموسيقية الراقصة تعارضت مع مدخل غنائي ذي طابع تأملي، لم يكن مسبوقاً باستيعابه في مقام شرقي. اتخذ اللحن تحولاً مقامياً إلى السوزناك المتفرع من الراست مقام الأغنية، ليمنح بنية موحدة للحن.
ومع أن تهمة الاقتباس لاحقته في الجملة الموسيقية وآخر مقطع غنائي من أغنية الفرنسي تينو روسي، "مارنيلا"، إلا أن ما حدث أشبه باستلهام ثيمة لحنية لا تتجاوز المازورة من مقدمة اللحن الفرنسي، ووسعها إلى خانات متعاقبة مع تطريزها في مقام الراست الشرقي بصورة خلاقة، لم تشهدها كثير من اقتباساته الفاضحة والتي ستنحدر لاحقاً إلى اختيارات ساذجة، كما في لحن "يا قلبي يا خالي".
تزعزعت البنية الاجتماعية في مصر خلال الأربعينيات، بما شملته الحرب العالمية الثانية من تأثير. مع هذا، لم تحدث التغيرات دفعة واحدة في ذلك العقد الذي ظل يحبل بالمفاجأة لسنوات. حتى أن واحدة من أشهر أغاني ذلك العقد، "أنا قلبي دليلي"، عام 1948، كانت بمثابة خطاب وداعي لملحنها محمد القصبجي ولذائقة مرحلة.
جاء صوت ليلى مراد على طبقة السوبرانو متماشياً مع سمات الغناء الأوبرالي، مع بناء هارموني غير معقد. وإضافة إلى توظيف إيقاع الفالس، بدت أغنية صالونات تقليدية. لكن لحنها المُشرق والتدفق بتحولات رشيقة وجذابة، جعلها رمزاً للحداثة الغنائية، وهو ما استدعى الفنان محمد فوزي لاعتبارها "أغنية عام 2000". بينما اتخذ الغناء مساراً بعيداً عن تصورات القصبجي.
من جهة أخرى، تميزت ألحان رياض السنباطي بفرادة في البناء اللحني قلما يضاهيه بها ملحن عربي آخر. وعلى خلاف أستاذه، أدرك التحولات، فتمسك بأسلوب شرقي يتسم بالتطريب. لكن أغنية "ياللي كان يشجيك أنيني" (1948)، تعكس توجهين رئيسين في ألحانه. فمقدمتها الموسيقية الرشيقة والألمعية بحداثتها ترتطم بمدخل غنائي مسترسل بتطريب تقليدي تملأه الظلال مقارنة بالجملة المشرقة، وتضمنت الأغنية الكثير من ملامح ألحانه الدينية إضافة إلى مزاج صوفي.
نتج عن الأربعينيات صعود جيل جديد من الأصوات الموسيقية نزعت للتبسيط اللحني، كان الأبرز فيه فريد الأطرش، الذي ترك أثراً عميقاً في الغناء المصري والعربي. لقد مهدت أغنية "بنادي عليك" (1952)، الطريق لبناء المقدمات الموسيقية الطويلة بتطرفها الاستعراضي، مع تجاور أمزجة لحنية بعيدة بعضها عن بعض. كان فريد صاحب نزوع خاص لا تخلو فيه ألحانه من مزاج شرقي خالص مهما احتوت عناصر غربية.
دشنت الخمسينيات الحرب الباردة، وظل عبد الحليم حافظ عدة سنوات يغني خلف ميكرفون الإذاعة من دون أن يلتفت أحد إليه لفترة. وبشكل مفاجئ، انطلقت نجوميته مع أغنيته "على قد الشوق"، التي لحنها كمال الطويل عام 1954. كانت ألحان ذلك العصر مُطالبة بالشياكة الموسيقية، من دون التخلي عن جمالية لحنية وعاطفية. ولكن ذلك التيار الجديد حاول التوفيق مع الجذور الغنائية، كما في لحن الموجي "إنا قلبي ليك ميال"، وإن اتسم بروح عصره. غير عبد الوهاب ثوبه وجارى أغنية عبد الحليم بلحنه "أنا والعذاب وهواك"، مستخدماً المقام نفسه، أي الكُرد.
بدا أن مسار الغناء يتسع على جمهور مكتظ في الزقاق الهامشية، لكن الستينيات أخذت شكلاً من الصراع الثيمي. إلا أن توجيه الغناء جاء من مغنّ شعبي مغمور هو محمد رشدي. لاحقاً، صدرت أغنيته "عدوية"، مطلع 1966، من ألحان بليغ حمدي. بدت الأغنية أشبه بسفر خروج من تقاليد الغناء الرسمي. وهذا ما دفع عبد الوهاب للتوجه نحو هذا النمط، فقدم سلسلة أغان شعبية. حتى أن أم كلثوم لم تنجُ من تلك الموجة في أواخر سنواتها واندفعت فيها بأغنية متواضعة هي "حكم علينا الهوى".
أيضاً في منتصف 1966، وضع السنباطي لحنه الأكثر شهرة، "الأطلال"، الذي بدا أنه لحن مكتمل، رغم أنه وقع في فخ محاباة جمهور الغناء، وتحديداً في مقطع "هل رأى الحب سُكارى".
شهدت القصيدة الكثير من التنويعات اللحنية والمقامية، مع وفرة في استخدام الجمل الموسيقية بين مقاطع الغناء بأسلوب السنباطي الثري بالألحان. لكنها بدت أيضاً من زاوية بمثابة استعراض وداعي لعصر من الغناء، وهو عصر هيمنت فيه أم كلثوم لفترة طويلة، أحالت فيه التطريب إلى طقس من التصوف الرواقي. ربما كان هناك تعارض مع خطاب العصر، ولم يكن سبباً في المآل، إنما معطف روحاني ارتداه الغناء.
كانت مصر على باب نكسة سياسية في عام 1967، ووسط السماء الكثيفة بالعتمة والإحباط، برز أحمد عدوية من الغناء الهامشي متفوقاً في سوق الكاسيت على كبار النجوم. أصبح عدوية بالنسبة للنخبة المصرية ظاهرة بحاجة للتفسير، وصفها الكاتب الكبير نجيب محفوظ بأنها انعكاس لعدم ثقة الناس بالغناء الرسمي. قبل نصف قرن، أخذت ظاهرة سيد درويش منحى مختلفاً امتاز بالتطلع للابتكار، ثم انتهى الأمر إلى تقوقع في المحلية، فانتصر الموال الشعبي ونشيجه المتسم ببحة.. كان صوت العوام حلاً من أجل النسيان.