تكثر قصص السوريّين التي تروي معاناتهم. تلك المعاناة التي يخبرونها في طريقهم إلى بلدان أكثر أماناً، وقد فرّوا من حرب بلادهم وزنازينها. هذه قصّة زياد وأخيه.
زياد شاب سوري. هو ليس زعيماً ثورياً ولا سياسياً معارضاً، بل إنسان من العامة لفظته طواحين الحرب إلى خارج حدود الوطن. تشرّد في البحر والبرّ وأهين وتعرّض إلى الضرب وواجه الموت، بيد أنّ إرادة البقاء والعيش بكرامة كانتا أقوى من الرضوخ للذلّ. هو أبى الاستمرار على أرض تحوّل عدد كبير من سكّانها إلى أشباه بشر تحرّكهم الهمجية والمذهبية. وعندما خرج من المعتقلات السورية، عزم على الرحيل إلى بلاد يشعر فيها بأنّه إنسان، وحيث كلمة "حرية" لا تزجّ به في السجون.
يروي زياد (اسم مستعار) قصّته بأدقّ تفاصيلها. هو يرغب في تسليط الضوء على كلّ مرحلة مرّ بها ورفاقه. بالنسبة إليه، لم تنطلق شرارة الثورة من منطقة درعا، إذ سجّلت الأحداث الأولى في منطقة حريقة في دمشق مع تظاهرة صغيرة أدّت إلى اشتباكات مع شرطة المرور. لم تمضِ فترة وجيزة، حتّى كتب أطفال لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات، شعارات معادية للنظام مثل "الشعب يريد إسقاط النظام" و"حريّة".
انقلبت الأمور رأساً على عقب بعد مقتل الطفل حمزة الخطيب (13 عاماً). وشارك زياد في تظاهرات معارضة للنظام، عن طريق التنسيق عبر موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي. يقول: "كان ذلك سلاحنا، آنذاك، في وجه الدبابات التي تحاصر درعا وحمص، طالبنا بفكّ الحصار، فأطلق رجال الأمن النار علينا".
وعزم الشباب على الرد بالمثل، بحسب زياد الذي أشار إلى أن الأمر تطوّر من مجرّد تجمّع إلى تسلّح. يقول: "حصلنا على السلاح من منطقة عرسال اللبنانية، مسدّسات صغيرة وبنادق ورشاشات كلاشنيكوف". استخدموا الأسلحة في التظاهرة بعدما تعرّضوا لإطلاق نار، وسيطروا على حواجز للجيش في مناطق ريف دمشق واستولوا على أسلحته. وبدأ التخطيط لاقتحام دمشق، في عملية "نقطة الصفر"، لكنها لم ترَ النور.
اقرأ أيضاً: حكايات طبيب سوري
وذات مساء، اقتحم الجيش منزل العائلة واعتقله وأخاه. حاول الوالد التدخّل لإنقاذ ابنيه، فطلب إليه الصمت حتى لا يُعتقل بدوره. لكن أحد الجيران الذي صادف مروره في المكان اعتقل، وكذلك مراهق من الجوار. ويسرد زياد: "وضعونا في سيارة الجيب وجلسوا فوقنا. وعندما صلنا إلى حاجز للجيش، طلبوا منّا الركوع على الأرض ووضع أيدينا خلف رؤوسنا. وبقينا على تلك الحالة حتى اليوم التالي. وضعنا في صندوق سيارة وحشرنا فيه، بعدما قلبوا قمصاننا على رؤوسنا كي لا نرى شيئاً. وبدأ الترهيب النفسي. قالوا لنا: جهزوا أنفسكم للموت يا خونة الوطن. ولما وصلنا إلى الفرع المركزي في دمشق، أودعنا سجنَ 17 نجمة".
بقي زياد وأخوه في السجن، نحو ثلاثة أشهر، والعائلة تحاول إطلاق سراحهما. لجأت إلى الوساطات والرشى التي وصلت إلى مليونَي ليرة سورية (نحو 10 آلاف و600 دولار أميركي). في النهاية أتى إخلاء سبيل الشابَين بمثابة ولادة جديدة.
غادر زياد وأخوه إلى مصر، ومن هناك حاولا الهرب على متن قارب إلى أوروبا. سبعة أيّام في البحر، انتقلا خلالها من باخرة إلى أخرى تحت وطأة الضرب والإهانات والتهديد برميهما في البحر، بقيا على هذه الحال حتى وصلت بارجة إيطالية ونقلت كل المهاجرين، كانوا نحو 300 سوري و200 أفريقي ومصري.
يقول زياد: "دخلنا إيطاليا، ووضعونا في مخيّمات. هناك نصحنا بعض الأشخاص بالهروب قبل أن تؤخذ بصماتنا. كان هدفي الوصول إلى بريطانيا، حيث لدي بعض الأصدقاء. وفي الصباح، لاحظت أنّ لاجئين كثيرين يهربون في حين تتجاهلهم الشرطة، فسرنا معهم".
في الطريق، قابل زياد وأخوه رجلاً سورياً دفع لهما أجرة تاكسي إلى مدينة كاتانيا، ويتحدّث زياد عن امرأة كانت تساعد اللاجئين السوريين، جلبت لهما الطعام ورافقتهما إلى أحد الجوامع لقضاء ليلتهما. وفي صباح اليوم التالي، عادت وأعطتهما 150 يورو (165 دولاراً)، ثمن تذكرتَي القطار إلى ميلانو.
هناك أمضيا 17 يوماً في إحدى الكنائس. وعندما نجح الشابان في تأمين مبلغ ألف يورو (1090 دولاراً)، توجها إلى نيس في فرنسا، ومنها إلى مرسيليا، لعدم توفّر تذاكر إلى باريس. ناما في محطّة القطار تحت الكراسي، وخلال الليل سمعا نباح كلاب واقتربت الشرطة من المكان وطردت الجميع. لكن عندما عرف الشرطي أنّهما سوريان، سمح لهما بالبقاء.
في صباح اليوم التالي، توجّها إلى باريس ومنها إلى منطقة كاليه على الحدود البريطانية، حيث بقيا شهرين و13 يوماً في مخيّمات. حاولا كثيراً الدخول بواسطة مهرّبين، لكن المبالغ المطلوبة كانت تفوق قدرتهما. يلفت زياد إلى "أن المهربين كانوا يطلبون من السوري أكثر من غيره، لأنّ وصوله إلى بريطانيا يعني حصوله المؤكّد على إقامة وحق اللجوء". في النهاية التقى شاباً عربياً سورياً، اتفق معه على مبلغ 1200 جنيه إسترليني (1870 دولاراً) عن كل شخص.
بعد محاولات استمرّت 13 يوماً، دخلا في برّاد شاحنة مع مهاجرين آخرين. استمرّت الرحلة ست ساعات، وكانوا على وشك الموت من الصقيع. ارتعبوا جميعهم، وراحوا يكسرون زجاجات المشروب في الشاحنة ويصرخون، فاتّصل السائق بالشرطة. يقول: "أخيراً وصلنا إلى بريطانيا. لم تمض ستّة أشهر حتى حصلنا على حق الإقامة".
اقرأ أيضاً: الثورة.. هكذا تُسرق من السوريّين