من سجن طرة... عن الطبيب مدحت عاصم

17 مارس 2016
كان الدكتور يتابعني بنفسه يوميا (الفيسبوك)
+ الخط -
كنت في زنزانتي، أتصفح الجرائد، أتابع أخبار هبة الأطباء ووقفتهم الحاشدة في جمعيتهم العمومية بمقر نقابتهم "دار الحكمة". أخيرا انتفض الأطباء لكرامتهم، لقد أضاعوا من الوقت الكثير قبل أن يقفوا هذا الموقف، فكرامتهم لم تنتهك يوم أن تعدى بعض أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية فحسب، بل انتهكت في وقت مبكر، انتهكت يوم أن غيبت سلطات الانقلاب المـئات منهم داخل السجون بالتهمة الفضفاضة أو الانتماء للإخوان، وانتهكت يوم أن ترك طارق الغندور، الأستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس، يفترسه الإهمال الطبي ليموت في سجون السيسي، وانتهكت كرامة الأطباء يوم أن صودرت أموال وممتلكات ومستشفيات العديد منهم - بلا وجه حق - فقط لأنهم إخوان وشردوا وطردوا فاضطروا لمغادرة البلاد.. مدحت عاصم نموذجا.


مدحت عاصم؛ بروفيسور الجراحة الأستاذ بكلية الطب بجامعة القاهرة - قصر العيني - كنت لا أعرف عنه إلا اسمه، هذا الذي أذكره منذ عشرين عاما حين قضى والدي نحبه، - وكان أحد رجالات الإخوان المسلمين - الذين حوكموا عسكريا في العام 1995 ودهمته الأمراض وأهملته الداخلية فمات في مستشفى قصر العيني، ولما عرقلت السلطات وقتها الإفراج عن الجثمان واستخراج تصريح الدفن لعشرات الساعات بحجة الدواعي الأمنية، كان للدكتور مدحت عاصم دوره وجهده الملموس في مساعدتنا لإنهاء الأمر.

حين اشتدت آلام المرارة على زوجتي ولم يكن بد إلا استـئصالها كان عليّ أن أبحث عن جراح ماهر يجري هذه الجراحة بالمنظار، قفز إلى ذهني اسم الأستاذ الدكتور مدحت عاصم، استعنت بـ (غوغل) فأفادني برقم عيادته، ولما اتصلت كان الدكتور قد غادر العيادة فأعطتني المسؤولة عن العيادة رقم هاتف الدكتور (الجوال)، وهو أمر غير معتاد لكبار الأطباء أن يعطوا أحدا ما غريبا أرقام جوالاتهم حيث إن أوقاتهم ثمينة.

تحدثت إليه طالبا منه القيام بهذه الجراحة فوافق، على أن أحضر باكرا إلى مستشفاه الخاص "الزهور" بمدينة السادس من أكتوبر، اتصلت بالاستعلامات فإذا بالدكتور قد حادثهم وحجز بالفعل غرفة العمليات باسم زوجتي.

على باب غرفة العمليات وقد تجهزت زوجتي للعملية، التقيت الدكتور لأول مرة وعرفته بنفسي، فلم نكن قد تعارفنا من قبل، حين توجهت إلى الحسابات لدفع مستحقات المستشفى، كان الدكتور قد حسم "أجرة يده" من كشف الحساب لأن زوجتي زميلة مهنة، وهو لا يتقاضى من زملائه، هكذا تلزمه أخلاقه.

وبعد مرور سنتين تقريبا، كنت أنا من أصارع الموت، طريح الفراش بمستشفى التأمين الصحي بمدينة نصر والذي نقلتني سيارة الإسعاف إليه إثر إصابتي بطلق ناري متفجر - محرم دوليا، يستخدمه الصهاينة ويطلق عليه الفلسطينيون "دمدم" - على يد مليشيات السيسي التي فضت اعتصام الحرس الجمهوري في مذبحة الفجر يوم 8/ 7/ 2013، تقطعت أحشائي وعانيت الكثير من التهتكات بجوفي نتاج الشظايا التي أصابت كبدي وأمعائي وقطعت أعصاب ساقي اليسرى فأعجزتها.

في أقل من يومين كنت قد أجريت جراحتين استكشافيتين بفتحة بطول البطن، فتحت عيني على أحدهم يتفحص أوراقي ويقرأ تقرير حالتي الصحية، كان الدكتور مدحت عاصم يرافقه عضو مجلس النقابة الدكتور أحمد الصروي والذي جمعني به السجن بعد ذلك، كانا يتفقدان الجرحى والمصابين ضحايا المذبحة التي سقط فيها أكثر من 1000 مصاب وارتقى أكثر من 100 شهيد، بادرته بالتحية وقلت له: "أنا عايز اجي المستشفى عندك يا دكتور" فرحب قائلا: "وقت ما تحب يا أحمد".

انتقلت إلى "الزهور"، وجدت الدكتور وقد حجز لي جناحًا فندقيًا، غرفة مميزة مع صالون استقبال الضيوف، وقد وضع اسمه على الملف الخاص بي بصفته الطبيب المعالج، وعليه فقد أوليت عناية طبية فوق الوصف، فكنت مريضا مميزا في المستشفى كله طوال مدة علاجي والتي قاربت على الشهر.

كان الدكتور يتابعني بنفسه يوميا، وحين افتقدته ليومين متتاليين سألته عن السبب فأجابتني الدموع في عينيه، فقد انشغل عني، بمصابي وجرحى المذبحة الجديدة "مذبحة المنصة أو النصب التذكاري"، وحين تنساب الدموع من عيني جراح اعتاد مشهد الجروح ورؤية الإصابات ويقضي جل وقته في غرف العمليات تدرك حينها بشاعة ما ارتكب بحق المعتصمين وحجم الإجرام وفداحة الإصابات.

كانت كل مذبحة تحدث تجبّ ما قبلها حتى كانت مذبحتا "رابعة العدوية" و"النهضة" واللتان ربما تسببتا لنا بنوع من البتر في الإحساس.

تقرر خروجي من المستشفى نهار عيد الفطر فمررت بالحسابات واستلمت فاتورة العلاج  بالآلاف من الجنيهات، إلا أن الدكتور أصر على حسم مبلغ يزيد عن ثلث القيمة، ولم تنجح محاولتي في إثنائه عن ذلك حيث إن الشركة - جهة عملي - ستتكفل بالنصيب الأكبر من قيمة العلاج.

غادرت المستشفى الذي لم أكن قد دفعت لخزنته إلا خمسة آلاف جنيه فقط، على أن أعود بالشيك بقيمة العلاج بعد إنهاء إجراءاته من جهة عملي، إلا أن الأمر استغرق عدة شهور نتيجة الإجراءات الروتينية، ولم يكن الدكتور ليعير هذا الأمر أي اهتمام.

عاودتني مشكلات صحية بعد أقل من عام كتوابع لهذا الطلق الناري اللعين، حيث أصبت بفتق بطول البطن استلزم إصلاحه تدخلا جراحيا وتركيب شبكة لم يكن ليقوم به إلا الجراح الماهر الدكتور مدحت عاصم، ومرة أخرى يأسرني بكرم أخلاقه حيث يرفض أن يتقاضى إلا المبلغ المكفول من الشركة جهة عملي رغم أن تكلفة العملية كانت أكبر من ذلك بكثير.

يرفض الرجل أن يتربح من المصابين والجرحى ضحايا جرائم العسكر، ويعتبر أن تدخله كطبيب جراح يحاول أن يداويهم وأن يخفف عنهم آلامهم، وهو ما يمليه عليه الواجب الإنساني والأخلاقي وكذلك الواجب المهني.

اليوم مدحت عاصم مشرد خارج البلاد، صودر مستشفاه، أغلقت عيادته، فقد وظيفته، فقدته الجامعة، وفقده تلامذته ومرضاه.

مدحت عاصم يجسد مأساة طبيب إنسان كان على زملائه أن ينتفضوا له يوم الكرامة.

(مصر)
المساهمون