من الكيخيا إلى خاشقجي.. المجرمون والوسائل

07 نوفمبر 2018

منصور الكيخيا وجمال خاشقجي

+ الخط -
"تهيب وزارة الخارجية بكل من له علاقة بالغرض المعد له جواز السفر المبادرة بتقديم كل عونٍ أو حمايةٍ قد يحتاج إليها حامله"... خُطّت هذه العبارة بشكل بارز، وبخط جميل، على صدر الصفحة الأولى من جواز السفر الليبي، تجعل المواطن يشعر بالأمان "نظريا" عند سفره إلى الخارج، إذا ما احتاج أي نوعٍ من المساعدة أو الحماية من خلال سفارات بلده وقنصلياتها في العالم، والتي يتقاضى الموظفون فيها أموالا تُستقطع من ميزانية البلد، باعتبارها من أهم الخدمات التي يستفاد منها في الخارج. ولا تختلف هذه الرسالة عن التي يحملها جواز السفر السعودي، والتي تنص على طلبٍ باسم الملك من جميع موظفي المملكة، المدنيين والعسكريين، وممثليها في الخارج، أن يقدّموا لحامل الجواز السعودي المساعدة والرعاية. واتفقت الدولتان في الإشارة، بوضوح، إلى ضرورة حصول المواطن الحامل جواز سفرهما على كل أنواع الحماية والرعاية، واختلفتا في الطريقة التي تتم بها هذه الحماية والمساعدة، فكل منهما اتخذ طريقةً، وسلك آلية مختلفة في تفاصيل الحماية التي قدّمها لمواطنيه.
كان منصور الكيخيا وزيرا للخارجية الليبية، ولم تشفع له التوصية المخطوطة على جواز سفره، بل ولم يشفع له استبدال ذلك الجواز بآخر جزائري، استخدمه لزيارة القاهرة في العام 1993، بدعوةٍ للمشاركة في اجتماع مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان. لم يشفعا له للحصول على الرعاية من سفارة بلده في القاهرة، على الرغم من أنه لم يلجأ إليها ولم يطلب منها الرعاية التي جعلته يختفي منذ ذلك التاريخ، في لغز محيّر لم تُفك طلاسمه إلى اليوم، بل اختفت جثته، كما اختفت حقيقة تغييبه، ولم تُكشف حتى بعد سقوط معمر القذافي ونظامه،
 والقبض على رموز مخابراته. أما العثور على جثته في حديقة منزل في طرابلس، ومرة أخرى في ثلاجةٍ في أحد مشافي العاصمة، فهما إشاعتان فنّدتهما أسرة الضحية. حيث يبدو أن خيوط الجريمة اختفت تماما بمقتل المسؤول الليبي الذي قابله الكيخيا في القاهرة، إبراهيم البشاري، في حادث سير في ظروف غامضة في 1997. وليس هناك شك في أن المخابرات الليبية هي التي أعدّت لهذه العملية، وخطّطت لها ونفذتها، لكنها لم تترك دليلا ماديا واحدا يمكن أن يدينها، حيث إنها اختارت مسرح الجريمة (القاهرة) بكل عنايةٍ، مستغلةً التفاهم والتعاون التام في تلك الفترة بينها وبين المخابرات المصرية، والتي تعاونت بشكل لوجيستي ومعلوماتي كبيرين في الحادثة، حسب ما نقلته صحيفة الحياة عن الوزير الليبي السابق، عبد الرحمن شلقم، في يوليو/ تموز 2011.
أما جمال خاشقجي، فقد قاده سوء تقديره وحسن ظنه بالأسرة الحاكمة في السعودية إلى الثقة في قنصليتها في إسطنبول، ويبدو أنه استدرج إليها بتوصية من سفير المملكة لدى واشنطن، الذي أوصى العاملين في القنصلية بخاشقجي لإتمام إجراءات شخصية له، على الرغم من أن الموضوع لا يحتاج لتوصية، ففي جواز سفره نصٌّ على الاهتمام والرعاية به وبغيره ممن يحملون الجواز، من دون توصية أو وساطة. وتم استدراج خاشقجي إلى القنصلية في إسطنبول، بعدما اعتقدت الأسرة الحاكمة أن الحكومة التركية في مأزق اقتصادي وسياسي، على 
خلفية احتجاز القس الأميركي أندرو برونسون، وما صاحبه من تداعياتٍ وأجواء مشحونة بين أنقرة وواشنطن، وأن الوقت مناسب لاستخدام الأراضي التركية لتصفية جمال خاشقجي وإسكاته إلى الأبد، من دون أن تجد الحكومة التركية الوقت للاهتمام بهذه القضية، فكل شيء سيمر بسلام، وستُسجل القضية ضد مجهول. وهناك فرصة كبيرة لشراء صمت الحكومة التركية، خصوصا بعد التداعيات التي تمر بها الليرة، إلا أن الحكومة التركية ومخابراتها تعاملت بمهنية وحرفية تامتين، ففي البداية لم تسرّب أي معلومات للإعلام، وانتهجت سياسة القطرة قطرة، حتى لا تمكّن الحكومة السعودية من اختلاق أي رواية أو سيناريو بناء على المعلومات المسرّبة. ونجحت أنقرة في ذلك، فتورّطت الحكومة السعودية بعدة سيناريوهات، بدأت من نفيها دخول خاشقجي القنصلية ثم خروجه منها بعدما أتم معاملته الإدارية، ثم الرواية السمجة عن مقتل الرجل نتيجة شجار في القنصلية التي أكّد القنصل من داخلها، مرات، أنه لا يعرف شيئا عن مصير خاشقجي لأنه غادر مبنى القنصلية بعدما استلم الورقة التي طلبها.
ما حصل لليبي منصور الكيخيا والسعودي جمال خاشقجي ليس غريبا على أنظمةٍ لا تقبل الرأي الآخر، وإن كان هذا الرأي سلميا ناقدا، وليس معارضا أو داعيا إلى استعمال القوة. ولا تسمح للمواطن أن يرى إلا ما تراه هذه الأنظمة الشمولية المغلّفة باحترام الرأي الآخر، واحترام حرية الصحافة والنشر. ولكن من غير المتوقع أن تكشف المخابرات السعودية للعالم عن غبائها وسذاجتها، وأنها على الرغم من المليارات التي تُنفق عليها ما زالت بدائية التفكير والتطبيق، الأمر الذي جعلها أضحوكة أمام العالم وأمام شعبها الذي كان يظن أن هناك ما يبرر إنفاق المليارات عليها، لأنها القادرة على حمايته من أي اختراق، فإذا بها تتصرّف تصرفاتٍ غبيةً، جعلتهم جميعا محل استهزاء واستهجان، يتندر العالم بغبائهم وسطحيتهم. صحيح أن هذه المخابرات استطاعت أن تنهي جمال خاشقجي، وتُخفي جسده، ولكن روحه ستظل تلاحقها، وتلعن الجناة، وستظل وصمة عار على الفاعل والآمر والمساعد والصامت، والأكثر من ذلك ستظل شاهدةً على غباء كل هؤلاء وسطحيتهم.
دلالات