من الخليفة إلى الرئيس المخلوع: أسماء رأس السلطة

14 ديسمبر 2015
تجهيز لـ نجا المهداوي، تونس، معرض "اختلاج"، 2013
+ الخط -

خلال مسيرته الحضارية القائمة منذ قرابة ألفية ونصف، لم ينتبه العقل الجمعي العربي إلى التحوّل في مفاهيم السلطة على الصعيد اللغوي، إلّا مع وصول أفكار فلاسفة اللغة الغربيين؛ فلم تنظر المجتمعات إلى المفاهيم التي جسّدت رأس الحكم في مؤسّسة الدولة العربية؛ إذ تبنّت المسمّيات التي راحت تطلقها السلطة من دون التوقّف ملياً عند مستويات تحوّلها تاريخياً ودلالياً.

يظهر هذا عند تتبّع التحوّلات التي جرت على رأس الحكم في الحضارة العربية منذ عصر النبي محمد حتى اليوم، إذ لا يُمكن المرور على المراحل التاريخية التي شكّلت مسيرة الدولة في الثقافة العربية، من دون النظر إلى مصطلحات مثل: النبي وأمير المؤمنين والخليفة والوالي والحاكم والسلطان، وصولاً إلى الملك والرئيس، وغيرها من المفاهيم التي ظلّت، رغم تغيّر مستويات حكمها، تشير إلى رأس الحكم في الدولة.

لا يشكّل هذا منفذاً إلى قراءة تحوّلات السلطة في الحضارة العربية، بقدر ما يثير تساؤلات حول سلطة اللغة، ولغة السلطة، وذهنية المجتمع المحكوم ومستويات الديكتاتورية، والعدالة في الدولة، إذ لكل من المفاهيم المذكورة دلالتها المغايرة على الصعيد اللغوي، فلا يُمكن المقابلة بين أمير المؤمنين والوالي، أو الحاكم والملك أو الرئيس. فما يشكّله حضور كل واحد من هذه المفاهيم في العقل الجمعي العربي، يُعدّ تكثيفاً لعلاقة السلطة في المجتمعات المحكومة.

لذلك، يمكن التساؤل حول سيرة هذه المفاهيم وأثرها في قراءة مستويات السلطة في الحضارة العربية: لماذا ظلّ مسمّى رأس الحكم هو القابل للتحوّل والتغيّر تاريخياً، فيما ظلّت الكثير من مسمّيات السلطة قائمة منذ مراحل مبكّرة من تاريخ الدولة الإسلامية والعربية.

مثلاً، نجد التحوّل من النبي إلى الخليفة، إلى الوالي، مروراً بالسلطان والحاكم، بينما ظلت مسمّيات الوزير والقاضي والمستشار والحاشية، وغيرها، قائمةً وفاعلةً منذ تلك المراحل؟ وكيف استطاعت اللغة أن تكون سلاحاً لبناء صورة السلطة في ذهنية المجتمعات العربية؟

بعد مقارنة لغوية دلالية بين مفهوم الأمير والخليفة والملك، أو الوالي والرئيس، تنكشف الكثير من المعاني الكامنة خلف هذه المفاهيم. فكما يكشف الرازي في "مختار الصحاح" حول الجذور اللغوية للوالي، نعرف أن "الولْيُ"، بتسكين اللام، تعني القرب والدنو، يُقال: تباعد بعد ولْي، وكل ممّا يليك، أي ممّا يقاربك، يُقال منه: وليه، يليه بالكسر في ما هو شاذ، و"أولاه" الشيء فوليه. وكذا "ولي الوالي" البلد و"ولى" الرجل البيع "ولاية". و"ولّاه" الأمير عمل كذا، و"ولّاه" بيع الشيء، وتولّى العمل؛ تقلّده.

مقابل هذا المفهوم اللغوي، الذي يشير إلى مستوى واضح من السلطة، إلى جانب مفترض من العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر دلالة القرب، وتولّي القيادة والشؤون، يكشف "الصحاح" عن مستوى آخر من السلطة في جذر مفردة "ملك"، فيذكر: "المَلِكُ: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ملَكَ: صاحب الأمر والسلطة على أمّة أو بلاد، شخص يحكم أو يتولّى المُلك في منطقة بحكم الوراثة ولمدى الحياة، جَلاَلَةُ الْمَلِكِ: صَاحِبُ الأَمْرِ والسُّلْطَةِ عَلَى بِلاَدٍ تَخْضَعُ لَهُ".

تنكشف مستويات السلطة في كلا المفهومين، وتفتح الباب كاملاً أمام سلطة اللغة، ولغة السلطة، فلا يمكن للمتتبّع لتاريخ تسلّم السلطة في الحضارة العربية، إلّا الانتباه إلى تنامي مستوياتها تاريخياً، وتمدّد سلطتها؛ من مفهوم "النبي"، بصيغته الدينية ومكانه من رأس الحكم، إلى الملك والرئيس الذي يملك ويترأّس كل ما يقبع تحته من سلطات ومستويات اجتماعية ومكوّنات مادية قائمة في الدولة.

لا ينكشف عمق الدلالة اللغوية وأثرها في تفسير العلاقة بين رأس السلطة والمحكومين تاريخياً، إلا بالتوقّف عند فلسفة اللغة بوصفها أداة تفكير، تُشكّل وعي المجتمعات، وتُرسم رمزية الأشياء من خلالها؛ فما يمكن أن يثيره استخدام مفردة السنّور في العربية لا يساوي ما يمكن أن يثيره استخدام مفردة الأسد أو القط، وكذلك الحال بين الكتاب والمجلّد والسِفر، وغيرها من المفاهيم التي تشترك في الإشارة إلى تكوين قريب في الملامح، بعيد في الدلالة.

يلخّص هذا الطرح ما قدّمه فيلسوف اللغة الألماني لودفيغ فيتغنشتاين، في أطروحته حول فلسفة اللغة، إذ انطلق من رؤية مغايرة كثّفها في مقولته "كل شيء يحدث داخل اللغة"، وظلّ يعتبر أن اللغة هي الطريق إلى المعرفة، باعتبارها وسيلة لفهم تكوين المعنى في الخطاب.

لهذا، يبدو غريباً أن تأخذ السلطة في الحضارة العربية مستويات تحوّلها تلك، بالنظر إلى مستويات تحوّلها اللغوي القائم، فمن أطلق مفهوم "الرئيس المخلوع" في ذهنية المجتمعات العربية، وكيف تحوّل خطاب السلطة الجديد إلى معول هدم للسلطة السابقة بمفردة واحدة تمّت إضافتها إلى مفهوم الرئيس؟ وهل نجحت السلطة الجديدة في هدم السلطة القديمة باستخدام اللغة، وماذا لو كان خطاب اليوم قائماً - في هذا الشأن - بصورة الرئيس السابق، أو الراحل، أو المتنحّي، أو غيرها من المفاهيم؟


اقرأ أيضاً: إسماعيل وقحطان: وهم الجذر العربي

المساهمون