أمشي في شوارع "نابلس" بصحبة شبحك، أصعد معه سفح "عيبال" غير مصدق أن هذه المدينة مدينتك. فالمكان، من فوق كما هو من تحت، مثل الهزيمة، يعيد ذاته كامرأة سمينة لا تمل رائحتها. أطلّ على المدينة التي بلا علامات فارقة تدل عليك، لا ميدان يحمل اسمك لا شارع، لا مركز ما. أهو النكران؟
يتلبسني شبحك يا إبراهيم، في محاولة الاقتراب من نبض المكان، كل محاولة فضولية لمعرفة أسرار هذه المدينة تأخذني إليك، رغم أنه لم يتغير شيء، منذ كنتَ هنا، في شكلها أو حركتها على السواء.
يتلبسني شبحك ويمشي بي، أحياناً يحدثني أمام الحمام التركي عن مشاويرك مع أمك إلى هذا المكان، وعن تلصصك على صديقاتها وجاراتها. أسأل الشبح إن كان كلام الراحل علي الخليلي صحيحاً، أنك قمت بتهديد أبناء الجيران بفضح أسرار الوالدات؟ أم أنك قمت بذلك لتتفادى بالكلام ضربات شبيحة ذلك الزمان؟ فلا يجيبني الشبح، كأنه يريد للأسرار أن تبقى أسراراً. أسأله، فيما أرى حاضر هذه البلاد، عما رآه قبل سبعين عاماً، وأنشد: "في يدنا بقية من بلاد/ فاستريحوا كي لا تضيع البقية".
كنت، يا إبراهيم، عتبتي الأولى في الشعر، ففي مرحلة ما، نحن لا نكتب إلا مدفوعين بأغنية أو قصيدة، أنت كنت تلك الأغنية التي دفعت بي إلى اللغة والموسيقى. ورغم أني أكتب النص النثري، إلا أنك جعلتني لا أقبله دون موسيقى، لذلك سأقول لك إن حياة الشاعر في نابلس أشبه بقصيدة نثرية دون موسيقى. هل كانت حياتك فيها بلا موسيقى مثلي؟
كلما قرأت شعراً لشاعر من نابلس تبسمت وقلت: لا ورثة يحملون خفة إبراهيم طوقان. أعتقد أنك كنت خفيف الظل، رغم أن الشخصية النابلسية ليست كذلك.
جبال "عيبال" و"جرزيم" كانت قد منحتها الصلابة التي تليق بها، وجعلت من شخصيتها توّاقة إلى الحرية والانطلاق، لكن الحصار الفلسطيني العام والواقع المثقل بالانكسارات فعلا ما لم تفعله الجبال حين أخذاها رهينة للسلفية الدينية والبطريركية الاجتماعية. متى بدأ ذلك؟ لا اعرف، لكنني أظن أنه حدث بالتزامن بين العديد من المدن العربية، منذ الغزو الروسي لأفغانستان.
أتذكر مرة في لقاء مع شعراء ونقاد من المدينة، كان بيننا كاتبة، أحد الحاضرين رفض مصافحتها لأن ذلك "حرام"! تصور لو أختك فدوى من تعرضت لذلك، ألن تصرخ معي: حرام أن يكون هذا الشخص على علاقة بالكتابة!
أكتب لك بالنيابة عن مدينتك ومدينتي، أستدعيك لأسباب كثيرة، أقلها الشكوى. لا أستطيع فهم البرجوازية المختبئة خلف بائع يجر عربة، أو خلف رجل الدين، أو خلف أزعر تحت إمرته عدد من الشبيحة.
البرجوازية المختبئة هي الفرق بين نابلس ورام الله، أو رام الله والخليل. فهناك البرجوازية فاعلة، رغم أن ملامح البرجوازية "الوطنية" التي في رام الله لا ترضي بعضهم، وبالتأكيد لا ترضي برجوازية نابلس، إلا أنها فاعلة وتصطدم بذاتها كل يوم، وفي النهاية هي ستصطدم بواقعها أي الاحتلال، وهذا ما يشكل هوية رام الله التي تحب أن تجرب، وبالتأكيد لو كنت موجوداً الآن بيننا فستختار العيش في رام الله على علاتها.
سقط "موطني" كنشيد وطني. كأن الذي نجح في إلغائه أراد لنا ألا نصدق حلم ياسر عرفات بسنغافورة أخرى على شواطئ غزة، وأن المرحلة التي شهدت تأسيس السلطة وبناءها ستكون مرحلة أخرى من البلاغة الجوفاء، التي تشبه إلى حد كبير "فدائي"- نشيدنا الحالي.
نشيدك هو من شكّلنا، كأنه الحجر الذي بنى عليه الفلسطينيون خطابهم الشعري منذ سقوط البلاد، دون أن يفكر أحد بذلك ودون أن ينتبه. نشيدك مثلك أسّس الوطنية في الخطاب الثقافي الفلسطيني الحديث. لكن السؤال الذي يخطر الآن: كيف فعلت ذلك؟ كيف نجوت في زمن الخطابة؟ من أين لك ذلك الدهاء وأنت ابن المدينة التي يرسمها جبلان؟
إبراهيم... عليك الاعتراف بكل ذلك.
لم أعد أبالي بالشبح، فأنا الآن أنت، أتحسسني؛ على وجهي نظارة مدورة، وعلى رأسي طربوش. أتحسس المكان، هذه ليست نابلس، أجري جولة تفقدية. أين "شارع غرناطة"؟ أسير قدماً ولا أجد "مكتبة البلدية"..
من الذي تغيّر: أنا أم المكان؟
أجمد في مكاني. لكن قدميك تركضان بي في الشوارع، قدماك تدلاني على طرقي التي أعرف، لكن نظارتيك ترياني الحقيقة: نابلس مفقودة في السيرة الفلسطينية الحديثة.