من أين تبدأ فلسطين؟

04 يونيو 2017
(مقطع من ملصق "احتفالية فلسطين للأدب" هذا العام)
+ الخط -

أجلس إلى مكتبي بنيويورك، أحاول بعسر كتابة مسودة بريد إلكتروني، عليّ إرساله. أشرح في الرسالة رحلتي عبر السعودية وألمانيا ومصر، وصولاً إلى الاحتفالية في فلسطين. أشعر أنني لست واضحة بما يكفي للزملاء، الذين لا يبعدون سوى ساعات قليلة عن محل إقامتهم، وعائلاتُهم على بعد مدينة أو دولة واحدة فقط، و ليسوا مثلي متناثرين عبر القارات.

لكني أعلم أن هذا ليس، بالضبط، سبب ترددي. فترددي يكمن في كلمة "فلسطين"؟ ماذا أسميها سوى ذلك؟ الأراضي الفلسطينية؟ الضفة الغربية؟ هل أحتاج لإخفائها كما أفعل عند عبور جسر ألنبي (جسر الملك حسين)؟ هل أحتاج إلى تلطيفها أمام هذا الجمهور الأبيض، بوضع كلمة "إسرائيل" بجوارها؟! هل يمكن إخفاء كلمة إلى هذا الحد، دون أن تتسبب –في نفس الوقت- بشيء من القلق عند ظهورها؟ ماذا نخفي كذلك، حين نخفي فلسطين؟

أُرسل الرسالة. يناقشني فيها شخصان، كلٌ على حدة. أبدت الأولى دهشتها، ووصفتها بالـ"شجاعة"، فيما تحمس لها الثاني، لأنه وجد حليفًا في القضية التي عجز عن البوح باهتمامه بها لأي زميل آخر.

بسببها، تقوم مديرة مؤسسة (أحترمها وأعاملها بوِد) تدافع عن حرية الصحافة، حينما زرتها لأودعها، بشبك ذراعيها أمام صدرها، في حركة تستعجلني الخروج من مكتبها.

"هل تستطيعون إقامة احتفالية أدبية في فلسطين دون "إشراك" إسرائيل؟ دون دعوة كتّاب إسرائيليين؟ دون العرض أمام جمهور إسرائيلي؟".

اختياراتنا السياسية في اللغة والأسماء ليست مجرد أدوات بل هي المعركة بعينها.
يحدث دائمًا خلط عند الحديث عن فلسطين كمكان جغرافي. فمعظم الناس لا يعرفون أنك لا تستطيع المرور من غزة إلى الضفة الغربية، أو العكس، بدون الحصول تصريح من إسرائيل، وعبور حواجز تسيطر عليها، أو دخول غزة عن طريق مصر، حليفة إسرائيل في الحصار، وبتصريح منها.

عندما تكون في فلسطين، لا مفر من أن تصرح باسم جدك، للموظف الإسرائيلي على الحدود أو في المطار. لا يمكنك أن تأكل دون شراء منتجات إسرائيلية، ولا يمكنك شراء أي شيء دون استخدام العملة الإسرائيلية.
في فلسطين، إسرائيل موجودة في كل مكان.

نقود السيارة في رام الله، العاصمة السياسية والمالية للدولة الفلسطينية "المرتقبة". هنا يمكنك شراء شريحة هاتف محمول "جوال" أو "وطنية" لاستخدامها في الضفة الغربية، لكن لا يُسمح لشركات الاتصالات الفلسطينية توفير شبكة الجيل الثالث. وهو ما يدفع البعض لشراء شرائح محمول إسرائيلية، سواء من مناطق إسرائيلية أو من الأحياء المجاورة للجدار الفاصل، حيث تباع إلى جانب البضائع المهربة مثل المخدرات والأسلحة. هنا، التواصل جريمة، والخيارات المتاحة هي شرائح إسرائيلية لـ "سيلكوم" و"بارتنر" التي كانت تعرف بـ "أورانج"، إلى أن انسحبت من السوق الإسرائيلية بعد حملات "حركة المقاطعة".

تلتقط تلك الشرائح شبكة الجيل الثالث من أبراج الاتصالات بالمستوطنات، التي تكثر في المناطق المرتفعة ذات التلال في نابلس ورام الله. فإذا كنت تبحث عن مستوطنة في الضفة الغربية، فلتبحث عن برج اتصالات. الأبراج هي أول ما يظهر وسط التلال، مثل سوارٍ، وكلما اقتربت أكثر سترى المستوطنات والمستوطنين.

نزور فلسطين المقسمة المدفونة في مدينة الخليل القديمة. تحتل "إسرائيل" الطوابق العليا لمنازل استولى عليها المستوطنون، أو تحوّلت إلى أبراج مراقبة للجنود. فلسطين في الطابق الأرضي، في مستوى الشارع، وإسرائيل في الأعلى.

نتجه الى الشمال، لنبحث عن فلسطين في حيفا. أخفينا صديقتنا الفلسطينية في آخر الحافلة، وربما تكون كلمة "أخفينا" أقوى من اللازم هنا، إذ كانت تجلس على مرأى من الجميع، بنظارة شمسية محاطة بكاتبات من الغرب.

تم إيقاف الحافلة عند نقطة تفتيش، ليصعد إلينا رجل يرتدي قميصاً أزرق فاتحاً، ويحمل سلاحا آلياً، تتبعه امرأة ترتدي زيَّا كاكيّاً، يسألان عن قائد المجموعة، وهما غاضبَان لأن كاتباً التقط صوراً من النافذة. طلب المسلح الهاتف ليحذف الصور، فيما تساءل الكاتب عن السلطة التي تخوله رؤية الهاتف أو جواز سفره. بعد شدّ وجذب كان فيها السلاح الآلي يسد الممر بين المقاعد، أذعن صديقنا وحذف الصور، إذ يمكنه استعادتها ساعة ما يشاء لاحقاً. ازداد الزحام خلال فترة احتجازنا عند نقطة التفتيش، مما أخرنا في الوصول لحيفا. وهو الأمر الذي يحصل معنا كل سنة.

الطريق إلى حيفا يصبح ساحلياً، فيما يشبه لوحة إعلان مثالية، بمناظر طبيعية وضوء هادئ رقيق، وسماء تمتزج بالماء. الجدار بعيد عن هنا. وحينما وصلنا حيفا، توقفت الحافلة مرتين لتوزيع المجموعة بين الفندقين الفلسطينيين الوحيدين في المدينة.

بدأت أشعر باستياء المجموعة، في اليوم الرابع من الاحتفالية، وبرغبة المشاركين في التحرر والتجول في المدينة الجميلة، وعدم الاضطرار إلى التعامل مع البطء الناتج عن تقسيم المجموعة بين فندقين أحدهما لا يقدم إفطارًا.

في المساء نلتقي الجمهور. جمهور شاب، وذو حس فني، ومتعدد اللغات. نذهب بعد الفعالية إلى شارع مسعدة، حيث المقاهي والحانات تستقبل اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين نهاراً، أما في المساء فتكون شبه حالة فصل اجتماعي، ما يدفعنا للاكتفاء بمطعم "إليكا"، ومحلات أخرى يملكها فلسطينيون.

بعد انتهاء الاحتفالية قال لنا رجل في رام الله: "لا تنخدعوا بحيفا. فهي مليئة بالفساد، وجمالها زائف. اذهبوا إلى القرى المهجورة. اذهبوا إلى المثلث وأم الفحم؛ هناك ستجدون فلسطين".

إذا كان الأمر كذلك، فأين نحن الآن؟ طلب الرجل زجاجة أخرى من البيرة. ماذا عن فلسطين المخيمات والمنفى واللادولة؟ حين يُدمّر منزل في شرق القدس، هل يفقد هويته الفلسطينية؟ ومتى؟ عند سقوط الحجر الأول أم الأخير؟

حين تعتقل السلطة الفلسطينية مراهقين بعد أيام من إطلاق الإسرائيليين سراحهم، هل لغيابهم نفس الأثر في الحالتين؟ أين تقف إسرائيل في دائرة الاعتقال لتبدأ فلسطين؟

عندما تقود السيارة الى رام الله، تجد أمامك لافتة تحذرك من دخول المنطقة "أ" المحظورة بموجب القانون الإسرائيلي، وغير الآمنة كما تقول اللافتة. بينما على الجانب الآخر من نقطة التفتيش، يبيع الأطفال شرائط الكاسيت والوسادات وأدوات المطبخ.

لا يمر الذاهبون إلى رام الله بفحص أمني، غير أن الخروج منها والذهاب مثلاً في اتجاه القدس فقصة أخرى. نسلك طريق المناطق "أ" و"ب" و"ج" في حافلة من حاملي جوازات السفر المميزة، ونقيم فعاليات لم نكن لنقيمها دون مساعدة أصدقاء فلسطينيين صبورين، أرونا فلسطينهم، وشاركونا مسارحهم.

في فلسطين، إسرائيل منخرطة في كل شيء، ولا حاجة لإشراكها. منخرطة بصورة مختلفة عما يحاول المسؤولون الإسرائيليون وممثلوهم الثقافيون إظهاره. لكن قد يكون أحد أدوار الأدب والفن، البحث عن المخفي والمسكوت عنه، وما يصعب الوصول إليه.

هناك نقطة، على مشارف بيت لحم، تستطيع عندها رؤية الجدار الفاصل، يلوح في آخر بساتين أشجار الزيتون. المشهد يلخص كل شيء: الجمال المثالي للأرض والمباغتة الخرسانية المشوشة على هذا الجمال، كلها في مشهد سريالي واحد. أحاول كل سنة أن ألتقط الصورة في اللحظة المناسبة من داخل الحافلة وهي تعبر المشهد، لكنه يمر بسرعة ويغيب.


* كاتبة وناشطة حقوقية تقيم في نيويورك ومن منظمي "احتفالية فلسطين للأدب".

** ترجمة أحمد الحسيني ومراجعة ندى حجازي

المساهمون