من "شهادة على العصر" للترابي

18 يونيو 2016

حسن الترابي (17يناير/2011/Getty)

+ الخط -
أثارت الحلقة التاسعة من الحوار مع الراحل حسن الترابي في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة، أصداء واسعة. أورد فيها الزعيم السياسي الإسلامي السوداني تفاصيل دقيقة بشأن الانقلاب في 1989، إلا أنها لا تستوقف العارفين، لأن ذلك الانقلاب كان معلناً، وتعلم به الأجهزة المنوط بها حماية أمن البلاد، كما التفاصيل بشأن الترتيبات التي لعبت فيها المؤسسة التي أنيطت بها السيطرة على المعلومات من القيادة العامة للجيش والوزارات السيادية، "الدفاع" و"الداخلية" و"الخارجية" وغيرها، بتركيب أجهزة الكمبيوتر. كانت أجهزة التنصت تغطي كل المنطقة من الخرطوم 2 والقيادة العامة للجيش وغيرها من مؤسسات الدولة. وكانت الإذاعة التي تبث على الموجة المتوسطة مسموعةً لمن أراد السمع، وأشارت صحف محلية، قبيل الانقلاب، إلى هذه الموجة، وما تردّده من موسيقى هي الموسيقى الجميلة للأغاني السودانية التي بثت عقب الانقلاب مباشرة. ومن يدري، وبالسهولة التي تحدّث بها الترابي عن الكيفية التي جرى بها الترتيب للانقلاب، قد يمضي إلى كشف المستور عن الدور الذي لعبه رئيس الوزراء في حينه، الصادق المهدي، لإنجاحٍ حاسم للانقلاب، والكيفية التي قرّر بها إغماض عينيه عن انقلابٍ جرت ترتيباته بعلم أجهزة حفظ الأمن، والتي تخضع له مباشرةً، وأبلغته بتفاصيلها رسمياً وفي حينه.
بدا الهدف من انقلاب 30 يونيو/ حزيران 1989 الذي نفّذه "الإخوان المسلمون" على النظام الديمقراطي التعدّدي في السودان، وقبيل أربعة أيام من توقيع اتفاقية السلام الأولى من نوعها في ظل حكم ديمقراطي، والتي باركتها كل القوى السياسية، بدا واضحاً، خصوصاً في ضوء "شهادة العصر" للترابي الذي وقف على كل تفاصيل الانقلاب. وكل ما أشير إليه، في هذه السطور، تتحمل وزره تاريخياً، وبشكلٍ لا يقبل الجدال، الأحزاب السودانية التي شاركت في تمرير الانقلاب، وحتى بعد وقوعه، بسلبيّتها التامة التي فرّطت فيها بأمانة الشعب، وحلمه في دولةٍ تنعم بالتقدّم والسلام والتنمية. بالطبع، التخوفات التي أشار إليها الترابي على مصير الانقلاب بعد "ما رأوا ما جرى في الجزائر" خلط فظيع، لأن أحداث الجزائر تمت في مطلع التسعينيات، أي بعد الانقلاب في السودان بنحو عامين.
أكثر ما هو مقلق حقاً في حديث الترابي، على الرغم من صحته، هو جهل الرئيس عمر البشير بالانقلاب، بل جهل أكثر من عضو في مجلس الثورة (15 عضواً) بأمره، وبأنهم جميعاً، باستثناءاتٍ قليلة تخص أعضاء التنظيم، غرّر بهم. والغريب أن تقرير الاستخبارات العسكرية السودانية، والذي سُلّم أصله إلى رئيس الوزراء، الصادق المهدي، يتضمن تفاصيل دقيقة عن كل مشارك في الانقلاب وعلاقته بالجبهة الإسلامية. ولهذا، فإن أكثر ما يخيف البساطة التي سلمت بها مقادير شعبٍ ودولةٍ بكاملها لأناسٍ، أقل ما يقال عنهم، إنهم سذّج، يتنكبّون وزر مغامرةٍ قاتلة، مع علمهم التام بأنه لاعلاقة لهم بها البتة. وعلى ذلك، يصير السؤال: كيف يثق تنظيمٌ يدّعي جدارته بحكم البلاد بحفنة جنرالاتٍ مجهولين من ناحية، ويسلمهم مقادير بلدٍ بحاله، ويضعهم في واجهة أحداثٍ هم بعيدون عنها كل البعد؟ وكيف يعمل فريقٌ من الضباط لا رابط بينهم، تنظيمياً ولا سياسياً، ولا حتى "يعرف بعضهم بعضاً" وفقاً للترابي، ولا يعرف حتى التنظيم جدراتهم بقيادة دولةٍ قارة كالسودان. وهل من مخاطرةٍ أعظم من هذه؟ ما ورد من إفادات تفسّر مخاطر كثيرة مما يعيشها السودان اليوم، وتزيد من تعاسة الوضع السياسي. أولها أن من يحكم لا يحكم فعلاً، وهذا أمره واضح لكل من تابع الشأن السوداني في سنوات حكم "الإنقاذ"، فيما الحكم عملياً بيد دوائر خفية تدير السودان من وراء حجاب.
الأمر الثاني يوضح مغزى شكوى كل القيادات الإسلامية المعروفة اليوم، والتي وجدت نفسها خارج دائرة الفعل السياسي، من غياب الديمقراطية، وقولها إن هذا النظام ليس الذي أرادوه وتمنوه وحلموا به، ما يعني موت الفكرة في الدولة الحضارية. وثالثها والأخطر أن من "لا يعرف بعضهم بعضاً" من العسكريين باتوا في مواجهة الدوائر الخفية التي حكمت من وراء حجاب عقوداً. وهنا مكمن الخطر على مستقبل السودان من صدامٍ وشيكٍ بين من صنع المغامرة ومن وجدوا أنفسهم في قمة السلطة من دون كفاءةٍ أو معرفةٍ بأصول الحكم.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.