تمتلك مصر واحدة من أعلى نسب التحرّش، ربما لأسباب جنسية، وربما لأسباب طبقية، نظرًا للكراهية المتبادلة بين الأغلبية الساحقة التي لا تمتلك ما أنتجته أحدث خطوط الموضة العالمية، سوى بعد أن يأكل ويشرب الزمن عليها، وبين الصفوة الذين يملكون تلك الصيحات فور صدورها.
الطابع العام لذلك البلد، هو المعاناة الكبيرة التي تعيشها الأنثى في كل خطوة تخطوها في الشارع، كلامٌ بذيء ومشاحنات مستمرّة تصل لحد التشابك بالأيدي، مما يجعل أية أنثى تفكر ألف مرة في ملابسها، ولكنها في الكثير من الأحوال، تلتزم بحقها في الاختيار، وتتحمّل العواقب.
تلك الصلابة والقوّة التي تمتلكها المرأة المصرية، هي من جعلتها تمتلك قانونًا يعاقب المتحرّش والمغتصب، كل على حدة، تلك الصلابة والعزيمة الكبيرة، هي من تجعل الراقصة تستمرُّ في رقصها، مهما كانت العواقب وخيمة، سواء قانونية من خلال التهم التي يتم تلفيقها لها، أو نظرات الناس أو القيل والقال، أو حتى العزلة الإجبارية التي يفرضها المجتمع عليها.
ربّما كل تلك الأسباب بإمكانها إنهاء مسيرة أية راقصة تهوى الرقص، وتؤمن بأنه واحد من أجمل الفنون الاستعراضية، ولكن السبب الحقيقي وراء إنهاء مسيرة الراقصة زيزي مصطفى والدة الممثلة منة شلبي، هو منة شلبي، فما أن وضعتها، حتى توقفت عن كل تلك البلبلة التي تعيشها بسبب امتهانها للرقص الشرقي، الذي يتمّ اعتباره للآن تميمة لنجاح شبّاك التذاكر.
لنتخيّل المشهد، راقصة شهيرة، لها ابنة ممثلة، تعيش في القاهرة، كم من مرّة اغتالها المغفّلون بألسنتهم، كم من مرّة أطلق الناس عليها ألقابًا تخل بالشرف والمبادئ، بل وتضرب ديانة الأغلبية في مقتل بحكم أن الله يحاسب وحده لا بموعظة من أحد وأن كل مسؤول عمّا فعل، لا عمّا ظنّه الآخرون بفعلته تلك، هو هذا العالم، يمتلك من المختلف والمختل الكثير، ولاستمراريته، لابد من اتساع صدر الجميع لمن حولهم.
حديثنا في هذا الموضوع ليس حصرًا نفسيًا للمجتمع المصري، وإنما تهيئة للقارئ لإدراك ما تعانيه أية فنانة جريئة كالممثلة منة شلبي، ولماذا هي النموذج المثالي للممثل المتكامل في هذه الحقبة التي تعيش فيها السينما تحت أسوأ مقصّات الرقابة.
منة شلبي، هي واحدة وحيدة من بنات جيلها الناجحات، نجمات الصف الأوّل أمثال منى زكي وغادة عادل ومي عزّ الدين وأخريات، يسمحن للممثلين بتقبيلهن من الشفاه في الأفلام التي تشارك بها، لماذا؟
لأنها هكذا السينما والفنون عامّة، لكي تخلق عالمها الخاص، لابد من كل ما هو بشري، كالجنس، والحديث الصريح في شؤون البلاد والتصريح بوجهة النظر في الدين، حتى يتحقّق التوحّد أو لنقل المعايشة بين المتلقي والعمل الفني، هو ضرورة درامية وضرورة قصوى أيضًا، فتمرير مقص الرقابة عليه ينقص من جمال المنتج الفني، ويخلّ ببنائه بالضرورة، ولنتذكّر الورطة الكبيرة التي تسبب فيها فيلم "ذئب وول ستريت" للمخرج مارتن سكورسيزي لمقصّ الرقابة في العديد من البلدان العربية، إذ إنه تم اقتطاع ما يربو عن عشرين دقيقة من الزمن الأصلي للفيلم بحجّة أن تلك الدقائق خادشة للحياء.
شاركت منة شلبي في بعض الأدوار الصغيرة في مقتبل حياتها الفنيّة، ولكن البداية الحقيقية لها كانت عند مشاركتها مع مخرج "عرق البلح" رضوان الكاشف، حيث شاركت محمود عبد العزيز بطولة فيلم الساحر، تذكر منة شلبي أنها التجربة المفصلية بالنسبة لها، لأهميّة الفيلم ولأهميّة شخص رضوان الكاشف الذي آمن بقدراتها التمثيلية وحاول ترويضها لكي تتطوّر بشكل مذهل.
شاركت منة شلبي الكثير من المخرجين المهمّين في أعمال سينمائية، محمد خان في "بنات وسط البلد"، يسري نصرا الله في "بعد الموقعة والماء والخضرة والوجه الحسن"، أسامة فوزي في "بحب السيما"، هالة خليل "أحلى الأوقات" و"نوّارة" التي نالت عنه جائزة أفضل ممثلة من مهرجان دبي السينمائي، ومخرجين آخرين شاركتهم منة سواء يمتلكون التاريخ الكبير أو حتى في مقتبل التجربة السينمائية.
تلك النجومية سواء على صعيد شبّاك التذاكر أو حتى على الصعيد الفني لما قدمته من أفلام من كلاسيكيات السينما المصرية، لم تجعلها تتخلّى عن قناعتها بأن ما هو للسينما هو للسينما، ما يتطلبه المشهد دراميا تؤدّيه بكل إخلاص، وهي من قلائل الممثلات المصريات اللواتي يتفاعلن مع القبلات من حيث الدور لا من حيث الغريزة، فتفاعلها مع قبلات الممثل في "الساحر" يختلف عن "نوّارة" ويختلف عن "بنات وسط البلد" وعن بعد الموقعة، كل ذلك محاولة منها للإخلاص في الدور وتقديمه كما ينبغي للمشاهد.
الكثير من الممثلات عندما اكتسحن شباك التذاكر أو قفزن سلالم النجومية تخلّين عن القبلات التي وافقن عليها في بداية مشوارهن الفنّي، بل وبعضهن تبرّأن من تلك الأفلام، لضغوط اجتماعية كثيرة بالطبع، وربما كان سلم المجد من وجهة نظرهن يبدأ بقبلة، وهو ظنّ السوء، فالكثيرات منهن قدمن ما لا يمكن لأكثر النجمات جرأة أن تقدمه وظللن خارج المشهد، فالتعرّي أو التقبيل ليس تميمة نجاح، وإنما تميمة النجاح دائمًا هو الإخلاص.
تحصد منة شلبي ثمار ذلك الإخلاص في هذه الآونة، فهي الآن نجمة من نجمات مسلسلات رمضان، تمتلك الكثير من القبول لدى المشاهد العربي، بملامحها الهادئة الجذابة وصوتها المتميّز وحضورها الخفيف، وتشارك أهم النجوم الرجال بطولات أفلامهم وتمتلك قدرًا كبيرًا من الجماهيرية التي تجعل صورتها على أيّة ملصق دعائي لأي عمل تشارك هي فيه، مصدرا لجذب الجمهور، الذي تحاول تقديم مختلف الأدوار له لكي يؤمن بأحقيتها فيما وصلت له من جماهيرية.
تشارك منة شلبي في هذا الموسم الرمضاني في مسلسل "واحة الغروب" الذي تخرجه كاملة أبو ذكرى صاحبة التجربة المهمّة في الدراما المصرية، وربّما نشاهد لها فيلم "الأصليين" في عيد الفطر الذي أخرجه مروان حامد عن سيناريو للكاتب الشهير أحمد مراد، الفيلم موضوع الجدل منذ صدور الإعلان الترويجي الخاص به، والذي تظهر فيه منة شلبي عارية الظهر، نال من سباب الجميع للجرأة المبالغ فيها من وجهة نظرهم من الممثلة، على الرغم من عدم صدور الفيلم أو أية مشاهد تم تسريبها تفيد شيئًا عن ذلك التعرّي المزعوم، ولكن هي عادة الناس، بأن تلوك بألسنتها في أية شيء يقترب من تابوهات مزيفة يؤمنون بها.
لا يوجد شيء اسمه التعرّي، هنالك سيّدة ترتدي ملابس أنيقة، من وجهة نظرها، فليس جسد المرأة في الأصل مكسوّا ليكون التعرّي فعلًا فاضحًا، لكن الملابس تطوّرت بتطوّر الشعوب جماليًا وأخلاقيًا، فلم تعد ملابس المرأة "ترمومتر" لمدى احترامها للجميع أو احترامها لنفسها، وإنما المشكلة فينا نحن، كلما ازدانت الفنون بكل ما تقضيه المسألة، تذكّرنا شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع.
الحياة في السينما تختلف عن الواقع، تلك البدهيات يفتقدها الكثير من الجمهور الذي يرتاد السينما أصلا لكي يرى حياة مختلفة، ذلك التناقض الذي يحمله الجمهور في داخله هو التعرّي الحقيقي والفعل الفاضح الوحيد على هذه الأرض، نحن نمتلك أجسادنا فقط، ولا تنتقص ملابس امرأة من رجولة رجلها، فكما نجح إصرار منة شلبي في جعلها واحدة من المرجعيات لبنات هذا الجيل، سينجح إصرار الكثير منهن إن اعتبروا منها ومن مثيلاتها.