منظومات "تعليمية"

19 يوليو 2016
+ الخط -

لو قيل إن ما يحدث في عالم اليوم يشبه إلى حد كبير الساعة ونصف الساعة، التي يمضيها المتفرج في قاعة سينما ليشاهد فيلمًا هوليوديًا "تقليديًا" عن الإرهاب وفعله، لانتفت المقارنة بين الواقع والخيال. لكأن ما يحدث هو أشبه بفيلم أميركي يمتح من "صدام الحضارات"، "الإرهاب الإسلامي"، "العرب الأشرار"، وما يتفرع منها من "أدبيات" تطوف في الإعلام اليوم.
ومما لا شك فيه، أن وجه العالم تغيّر، وأن "الإرهاب" بصنوفه كلها؛ داعشًا واستبدادًا واحتلالًا وغزوًا وتحالفًا، غدا الطبق اليومي لسكان الكوكب. لعل الوقت تأخر فعلًا لإيقاف هذا التغيير "الانقلابي"، الذي أصاب العالم، إذ لا يبدو أن ثمة خطة لمواجهة الأمر والتصدي له. فرغم "التقدم" على صعيد المراقبة والاستخبارات التي تطورت بما لا يقاس عما "تنبأ" به جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984"، إلا أن المشهد صار أكثر دموية وعنفًا من انفلات أي خيال هوليودي في فيلم أميركي، إلى حد أنه من الممكن رفد ذلك كله بمشهد ساخر يجمع ساسة العالم والملتحقين بهم من أدوات الشر، وفي الخلفية صوت سوفوكليس في مسرحيته "أوديب ملكًا": "كم هي مرعبة معرفة الحقيقة، لأنها تقتل أول من وصل إليها"، إذ لا حاجة للمعرفة لدى الساسة ودمى العولمة المتأنقين، في ما يخص داعش والإرهاب والاستبداد والاحتلال و"التحالفات". فهي أمور من صنعهم، فرادى ومجتمعين، منقسمين بين قطبين، أو منشطرين لأكثر من قطب، بل وحتى متحدين في "مواجهة الإرهاب".
ثمة منظومات كاملة أدّت إلى التغيير الانقلابي هذا : معامل الأسلحة وتوابعها التي تعشق الربح الوفير، ولا تطيق أن تكون أرقام أعمالها إلا فلكية محلقة بأصفار على اليمين لا تنتهي. و"معامل الإرهاب"، حيث نجد فيها تلك "المعسكرات" المتنوعة، لتأهيل البشر كي يصيروا مجرمين أشد شرًا من الشيطان، ومنها مدارس الإرهابيين، ومعتقلات الإرهابيين على حد سواء. تلك السجون، كسجن بوكا في العراق، التي يدخلها "البشري" ليتخرج منها "داعشيًا" بشهادة ودرجة خاصتين، أو المدارس التي تبث الفكر المتطرف، وتصور لـ "الطالب" أن الأهداف التعليمية، ليست إلا البحث عن "الكافر" وقتله، ضمن عملية غسل دماغ "علمية" كُرّس لها آخر ما توصلت إليه المعرفة حقًا.
مدارس برمتها منذورة لـ "تعليم الجهل"، حيث البرامج مصممة خصيصًا لاكتساب مهارات الشر والقتل، إذ إن الحل في نظر المنتسبين إلى مدارس مشابهة والقائمين عليها، لا يكون إلا بالعنف المهول، حيث يتصور الطالب أن عليه إيجاد "حل" لمعضلة "الكفر"، فتراه يجهد نفسه في استعمال "مهاراته" ومكتسباته من أجل وضع خطة محكمة لقتل أكبر عدد ممكن من البشر.

لعل الحادث الأخير في نيس، يظهر ذلك بجلاء. إذ لا ريب في أن المجرم (وهو فرنسي من أصل تونسي، أو تونسي حامل للجنسية الفرنسية، أو فرنسي تونسي، أو تونسي فرنسي، وفقًا لـ "أدبيات" الإعلام الموجه)، فكّر مطولًا وأجهد نفسه، (رفقة زمرته بالطبع) من أجل التخطيط للعملية. هكذا رأى أن الاندفاع بالشاحنة البيضاء في خط متعرج من شأنه إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا، وأن المسدس هو "الحركة الأخيرة"، التي سيلجأ إليها قبل أن تقتله الشرطة. ويقول أحد الشهود، إن المجرم بدا مستمتعًا بالقتل، إذ لعله كان يفكّر وقتها أنه أدى واجبه، وأن ما اكتسبه في مدارس "تعليم الجهل"، أتى ثماره، وأن الخطة التي نفذها، حققت أهدافها ونجحت.
والظن، أنه ليس في الأفق، خطة لإيقاف هذا الإرهاب بأنواعه وأشكاله كلها. أمن داع لإيجاد الصلة بين حادث نيس الإرهابي، وما يحصل في شرق المتوسط، حيث اللاعبون دوليون وإقليميون ومحليون و"مستوردون" أيضًا وفقًا للاحتياجات؟
لا خطة في الأفق، إذ إن لا أحد من الساسة ودمى العولمة المتوحشة، يريد فعلًا "تفكيك" معامل الأسلحة ومعامل الإرهاب ومدارسه ومعسكراته. فذلك يتناقض مع السلطة والنفوذ ومصالح الدول، التي تنظر إلى الأمر كما لو أنه رقعة شطرنج، وبيادق تتحرك بخطوات "ذكية" من أجل الفوز. الفوز بماذا؟ السلطة المطلقة والنفوذ الكلي. أمّا البشر فهم في نظر هؤلاء، ليسوا إلا نملًا جاهلًا يحتاج "تأهيلًا" للتدرب على القتل والإرهاب من أجل قتل بشر غيرهم، ليسوا بدورهم إلا نملًا يمكن دهسه بشاحنة تندفع بقوة بخط متعرج.
دلالات
المساهمون