منطق المحتل أم منطق الثورة؟

06 يوليو 2014

فلسطينيون يتظاهرون في رام الله ضد المفاوضات (يونيو/2012/Getty)

+ الخط -


يبدو أن التصريحات غير الشعبية لمسؤولين فلسطينيين كبار، ومنهم الرئيس محمود عباس، بهدف حماية الشعب من الذبح على حد تعبيرهم، قد تجاوزت هذا الإطار إلى محاولة رسم وترسيخ ثقافة شعبية جديدة، تفرض على الشعب الفلسطيني، وحتماً سيمتد تأثيرها إلى الشعوب العربية، مستعينة بسياسة العصا والجزرة. عصا الاحتلال والتذكير بالفارق الهائل بموازين القوى معه، وعدم قدرتنا على مواجهته ومقارعته في ظل آلته العسكرية المعززة باعتداءات عشرات آلاف المستوطنين، وجزرة الهدوء والاستقرار المعيشي، بدعوى عدم جدوى المقاومة والانتفاضة، ونتائجها التدميرية الكارثية على الشعب والوطن.

اقتبس غيضاً من فيض هذه التصريحات "الانتفاضة فوضى، ولها نتائج تدميرية كارثية على شعبنا .. لا طاقة لنا بقتال إسرائيل ومقاومتها .. هدف عملية خطف الأولاد تدميرنا .. تدمير السلطة .. تحميلنا المسؤولية". ثم تصريحات ناطقين رسميين، تعتبر ما جرى مسرحية، أعدها الاحتلال لتبرير إجراءاته القمعية، ولإعادة احتلال الضفة، وكأن الضفة أرض محررة، لا تصول فيها قواته، ولا يعربد فيها مستوطنوه، في كل لحظة، في محاولة للإيحاء بأن هذه العمليات، حتى لو كانت من صنع مقاومين، فإنها لا تخدم إلا الاحتلال.

ولتكتمل الصورة، دعونا نلقي نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كلما وضعت صورة لشهيد أو جريح أو منزل مدمر أو حشد لقوات الاحتلال، أو خبر عن عقوباته الجماعية، إلا وتجد أكثر من تعليق، يشير بأصابع الاتهام إلى أن المقاومة هي المسؤولة عن ذلك، تلميحاً أو تصريحاً، ولولاها لكنا بألف خير.

تحميل المقاومة مسؤولية الاعتداءات الصهيونية ليس أمراً جديداً، على أي حال. تصريحات الناطق باسم جيش الاحتلال في كل اعتداءاته على الدول العربية من غزة إلى السموع، منذ 1948 وحتى 1967، وهي تحمل المعنى نفسه. وهكذا نطقت منشوراته في اجتياحاته المتكررة للبنان، وما زال يكررها حتى اليوم، إن اعتداءاته رد على الأعمال "التخريبية"، وهو، منذ نشأته، يطبق على شعبنا سياسة العقوبات الجماعية. الحجة نفسها استخدمتها أجهزة الأمن العربية، حين لاحقت رجال فتح بين 1965 و1967، تنفيذا لتعليمات القيادة العربية الموحدة التي اتهمت فتح بالتاءات الثلاث المشهورة، المتمثلة بالتوريط والتوقيت والتنسيق، وتعني عدم التسيق مع الدول العربية، والتوقيت الخاطئ، وسعيها إلى توريط الدول العربية في حربٍ غير متكافئة مع العدو، والتسبب في هجماته على القرى الحدودية. وقد زخرت أدبيات فتح ومبادئها ومنطلقاتها، في تلك الحقبة، بالرد على ذلك، وتبيان حق الشعوب بمقاومة الاحتلال، وإنه، عبر تلك المقاومة، فقط يتم تغيير موازين القوى.

من شأن هذه الثقافة الانهزامية، لو عممت وسادت، أن تنسف منطلقات الثورة الفلسطينية المعاصرة برمتها، وسجلها النضالي بأسره، والتي كان الرئيس عباس أحد قادتها. ماذا لو طبقنا ذلك على عملية الدبويا في الخليل ذاتها 1980 ألم يقم العدو بالإجراءات القمعية نفسها، من حصار وقمع واعتقالات وإبعاد لرئيس بلديتها وبلدية حلحول وقاضيها الشرعي. ألم تتسبب عملية دلال المغربي باجتياح لبنان 1978. وعمليات المقاومة في الأغوار والجليل في قصف مدن أردنية وقرى لبنانية وتهجير سكانها، وحرب الاستنزاف المصرية ومجزرة بحر البقر. هل نسلم بمنطق الناطق العسكري الإسرائيلي في تبريره اعتداءاته، المستندة إلى لغة القوة ومنطق المحتل، أم نبقي على منطق الثورة وإرادتها في التغيير.

اللوم كل اللوم يجب أن يوجه إلى العدو الصهيوني وحده، فالاحتلال والاستيطان وطرد شعبنا وتشريده أساس الداء. والمقاومة بكل أشكالها، والثورة بتعبيراتها المختلفة رأس كل دواء. وإذا كان من لومٍ إضافي فهو على انحراف الخط السياسي عبر سياسة المفاوضات العبثية التي لا تنتهي، وخواء الرؤية السياسية والاستراتيجية. حسبنا أن نذكر أن الاستيطان في ظل هذه السياسة قد تضاعف مئات المرات، حتى كاد عدد المستوطنين في الضفة أن يناهز النصف مليون، جلّهم استوطن في ظل مفاوضات السلام المزعوم، ولعلي أزعم، هنا، أن العدو تجرأ، في ظل هذه السياسات، على ما لم يكن يجرؤ عليه، في ظل عدم الاعتراف به ومقاومته. فالأولى أن تتجه سهام النقد إلى السياسات التي قادت إلى مثل هذا الوضع، في الوقت الذي يتم فيه استخلاص الدروس والتجارب من المسيرة النضالية، بهدف نقدها وتطويرها واستخلاص العبر منها. ومحاربة الاتجاهات التي تهدف إلى فرض ثقافة جديدة، تزرع نهج الاستسلام والخنوع في ذاكرتنا وعقلنا الجمعي، حين تصبح هبات الشعوب جالبة للكوارث، والمقاومة نظراً لتفوق العدو أمر لا طاقة لنا به، وأعمال المقاومة مسؤولة عن آلام الشعب ومعاناته الناجمة عن تدابير العدو.

منذ الحرب العالمية الثانية، انتصرت كل حركات التحرر الوطني وثورات الشعوب ضد الاستعمار، وتحررت عشرات الدول وطردت المستعمر ونالت استقلالها. بقي شعبنا العربي الفلسطيني، ذلك أنه لا يواجه قوة عسكرية محتلة فحسب، بقدر ما يواجه استعمارا إحلالياً، هدفه أن يحل المستوطن الصهيوني مكان المواطن الفلسطيني، الأرض والهواء وسماء الوطن لا يتسع لكليهما: نحن أو هم. وإذا كان شعبنا قد توحد أمام فكرة الدولة اليهودية، ورفضها بالمطلق. تلك الفكرة التي يعني القبول بها اعترافاً بأن الصهيوني المحتل هو صاحب المكان، منذ بدء التاريخ وحتى اليوم، ونحن الطارئون المحتلون أرض غيرنا التاريخية. وصان بذلك تاريخه، وحافظ على حاضره، فإنه مطالب، اليوم، برفض تشويه تاريخ ثورته المعاصر، ونسف الأساس الذي تقوم عليه المقاومات وقوى التغيير، وترسيخ الشعور بالاستكانة والاستسلام، ورفض منطق المحتل، موقناً بأن شعبنا له الحق، مثل كل الشعوب الأخرى، في المقاومة ودحر الاحتلال، وهو حق كفلته كل الشرائع والمواثيق.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.