بالرغم من قرار أصدرته إحدى محاكم الاحتلال الإسرائيلي بتأجيل هدم منزل عائلة الفلسطيني المقدسي فواز عبده، من بلدة جبل المكبر، جنوب القدس المحتلة، لنحو شهرين، فإنّ شبح الهدم في كلّ لحظة يسيطر على أبناء العائلة جميعاً، بمن فيهم الأطفال الذين لا يتحدثون إلا عن أحلامهم في الاستقرار ببيت وبزوال شبح الهدم عنه. في ساحة منزله المتواضع، التقت "العربي الجديد" فواز عبده عويسات. هناك يمضي جلّ وقته مفترشاً الأرض فوق فراش ووسادة، ويجهز نفسه لمجيء الاحتلال في أيّ لحظة، حتى لا يفاجأ بهم يطوقون منزله ويخرجون من فيه بالقوة. يعلق: "يريدوننا أن نهدم بيتنا بأيدينا... رفضت ذلك، وقلت فليأتوا هم ليهدموه ليرى العالم جرائمهم في تشريدنا وحرماننا من المأوى". ويضيف عبده: "لن أهدمه بيديّ، بالرغم من أنّ لبقية أفراد الأسرة موقفاً آخر، فهم لا يريدون أن تأتي جرافات الاحتلال وتهدمه وتكبّدنا رسوم الهدم التي تزيد عن 100 ألف شيكل (نحو 33 ألف دولار أميركي)، وأنا أحترم موقف زوجتي وأبنائي في هذا الخصوص، كوني ديمقراطياً، كما أحترم رأي كلّ فرد من أفراد الأسرة، إذ اعترض على موقفي خمسة منهم، وكنت أنا الوحيد الذي اختار رفض هدم المنزل بيديه، بالرغم من إدراكي حجم المعاناة النفسية والمادية المترتبة على هذا الرفض".
حكاية فواز هي حكاية كلّ مقدسي في هذه المرحلة التي بات الهدم الذاتي فيها سياسة متبعة من قبل بلدية الاحتلال في القدس لا تكلفها شيئاً، ولا تثير ردود فعل خارجية كالتي تحصل حين تأتي جرافات الاحتلال وطواقمه التي يحرسها مئات من الجنود.
في عام 2015، بدأ عبده مشواره في البحث عن مأوى دائم يؤوي أفراد أسرته، فشيد منزله المتواضع وانتقلت أسرته منذ ذلك الوقت إلى بيتها الجديد، لكنّ الحلم بالمأوى والاستقرار لم يدم طويلاً حتى بدأت مضايقات الاحتلال له، وحملات الدهم التي تقوم بها طواقم ما يسمى بالمراقبة على البناء في بلدية الاحتلال في القدس بحق المنزل، وتسليم صاحبه إخطاراً تلو آخر.
معركة امتدت لسنوات وبلغت ذروتها في الأسابيع القليلة الماضية لتبدأ العائلة مشوار كفاحها ضد هدم منزلها. كان ذلك قبل نحو عام ونصف حين تلقت العائلة أمر الهدم الأول، وبالرغم من محاولات عبده الحصول على ترخيص فإنّ جهوده فشلت، وأقصى ما يمكنه هو تأجيل عملية الهدم ليس إلّا.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يؤكد عبده أنّه لن يغادر المكان، فالمنزل يمكن أن يهدم في كلّ مرة، ويقول: "لقد اخترت النوم في ساحة البيت وافتراش الأرض، في حين يمضي أفراد أسرتي أوقاتاً عصيبة من الترقب والانتظار إلى درجة دفعت بزوجتي إلى تجهيز أثاث البيت للرحيل، إذ قد يأتون في أيّ لحظة". وسيحاول عبده أن يجري تصويتاً آخر بين أفراد أسرته على ما هو متاح أمامهم من خيارات لإنهاء معاناتهم الوشيكة من فقدان المنزل: "إما تأييد موقفي برفض الهدم الذاتي فتتولى بلدية الاحتلال تنفيذ الهدم، أو تتكفل العائلة بهدمه فتوفر دفع رسوم الهدم العالية جداً".
الطفلة صوفيا تؤيد موقف والدها بالرغم من إحساسها بالفقد الكبير الوشيك من جراء هدم المنزل. تتحدث صوفيا عن خسارة أحلامها الصغيرة، كاقتناء كلب صغير في المنزل، لكن أين ستؤويه الآن وهي التي لن تجد لنفسها مأوى تلوذ به؟
ليس بعيداً عن منزل العائلة، تطلّ من جبل يحيط بالمكان كتل إسمنتية ضخمة تكاد تلامس السماء... هذه مستوطنة "أرمون هنتسيف"، التي أُقيمت على أراضي جبل المكبر، جنوب القدس، وتمددت فوقها لتسلب أصحاب الأرض الشرعيين حقهم في الحياة والسكن والاستقرار. وليس بعيداً أيضاً عن منزل هذه العائلة منازل مهدمة يتخذ أصحابها ملاذاً ومسكناً لهم فوق الأنقاض المدمرة، أما إلى الشرق منها، فأعمال التجريف والإنشاءات لشق ما يعرف بـ"الشارع الأميركي" مستمرة ومتواصلة على مدار الساعة.
لا يمكن لأحد أن يتصور معاناة المواطن المقدسي عبده، الذي فقد عمله في قطاع السياحة أخيراً بسبب جائحة كورونا، إذ يقول لـ"العربي الجديد": "إذا هدموا البيت أو أرغمت على هدمه بيدي لن يكون بمقدوري استئجار بيت، إذ إنّ أجرة الشقة في القدس اليوم لا تقل عن ثلاثة آلاف شيكل (أكثر من 900 دولار)".
وإلى جانب عبده، يقف شقيقه المصور الصحافي عطا عويسات، الذي التقط صورة لعبده وهو نائم مفترشاً ساحة المنزل، وحملت كثيراً من الدلالات بالرغم من أنّها بدت صامتة تماماً، لكن في الصمت الذي ظهرت فيه وجهت صرخة مدوية للعالم. يقول عويسات: "لم يكن من السهل التقاط هذه الصورة، فهي المرة الأولى التي ألتقط فيها صورة تخص عائلتي، وتخص شقيقي بالذات. لا يمكن للكلمات أن تعبر عما شمله مضمون ومحتوى تلك الصورة التي تحدثت عن نفسها ولخصت معاناة رب أسرة يكاد يفقد منزله، بعدما فقد عمله وبات اليوم عاطلاً من العمل".
منزل عائلة عبده ليس الوحيد الذي يمرّ بهذا الاختبار، ففي سلوان، والعيسوية، وصور باهر، عمليات هدم ذاتي شبه يومية تجري هناك منذ مطلع العام الجاري، ولا يكاد يمرّ يوم من دون أن يهدم مقدسيون منازلهم بأيديهم، ومن يمتنع عن ذلك يتولى الاحتلال هدم منزله.
ويقول مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية زياد الحموري، لـ"العربي الجديد"، إنّ عام 2019 سجل هدم 104 وحدات سكنية، وفي عام 2018 هدمت 72 وحدة سكنية، كما شهد عام 2017 هدم 86 وحدة. وتشير معلومات بلدية الاحتلال في القدس إلى قيامها بهدم أكثر من 90 منزلاً منذ مطلع العام الجاري، 2020، كثير منها هدمها أصحابها بأنفسهم.