مناظرة رئاسة تونس ومواقف حاسمة

21 أكتوبر 2019

نبيل القروي وقيس سعيد في مناظرتهما التلفزيونية (11/10/2019/ الأناضول)

+ الخط -
شغل الحديث عن المناظرة الرّئاسية بين المتنافسيْن، قيس سعيد ونبيل القروي، في 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، النّاس في تونس، باعتبارها أوّل مناظرة بين مترشحيْن للرّئاسة في تاريخ البلاد. اكتسبت أهميتها من أنها مناسبة تواصل مباشر بينهما، وفرصة استعراض برامجي/ جِدالي بين الطرفين أمام الجمهور. وكانت مصيرية من جهة أنّها حدّدت توجّهات المتسابقين على الفوز بكرسيّ قصر قرطاج، وبيّنت تصوّر كلّ منهما لكيفّيات إدارة دواليب الرّئاسة وشؤون البلاد. ولأهمّية الحدث، تعلّقت القلوب بالمناظرة، واحتشدت لأجلها الجموع في المقاهي والساحات العامّة، وعدّل النّاس ساعاتهم على ميعادها، علّها تساعدهم في اختيار المُرشّح المناسب لرئاسة الجمهورية. ويتبيّن لمن تابع ردهات المناظرة أنّها شهدت مواقف حاسمة، صدرت من المُتناظريْن، أثّرت في السلوك الانتخابي للمشاهدين، ورجّحت كفّة قيس سعيّد على منافسه نبيل القروي.
اكتسبت فاتحة المناظرة ضربة البداية لمباراة الكلام بين الطرفين المتنافسين أهمّيتها من أنّها كلمة تقديميّة، عرّف خلالها كلّ مترشّح بنفسه، وأحدثت لدى النّاس انطباعا أوّليا عن المتسابقيْن على الرّئاسة. بدا التفاوت بين الرجلين واضحا منذ الوهلة الأولى. قدّم قيس سعيّد نفسه بلغة عربية، مسترسلة، فصيحة، قائلا إنّه "ينتمي إلى أسرة تونسيّة، عريقة، تنقّلت بين أشهر أحياء العاصمة. وأخبر أنّه درس في أعرق مدارسها وجامعاتها، وتحصّل على شهادة الدّراسات المعمّقة في القانون الدّستوري، ودرّس القانون لما يزيد عن ثلاثين عاما في الجامعات التونسية، 
وله أبحاث منشورة داخل تونس وخارجها"، فظهر للنّاس في صورة مترشّح مثقف، وأكاديمي فصيح، وتونسي أصيل، متمكّن من أسباب القانون، وهي خصالٌ محمودة، يرتاح لها مُعظم التونسيين الذين يُكبرون في المثقّف فصاحته، وأصالته، وتمكّنه من المادّة القانونية. أمّا نبيل القروي، فقدّم نفسه بلهجة تونسيّة، قائلا إنّه "رجل أعمال، يملك شركات كثيرة، معتبرا نفسه مرشّحا استثنائيا"، مُردفا "لا تنتظروا منّي فصاحة مُحام، ولا معلومات مختصٍّ في القانون أو الاقتصاد...أنا إنسان براغماتي". ومن ثمّ ظهر للمشاهدين في صورة رجل أعمال نفْعي، يُثني على نفسِه، ويتباهى بكثرة شركاته، ويُقرّ بمحدودية زاده المعرفي في مجالين حيويين (القانون، الاقتصاد)، يُفترض أن يكون رئيس الدّولة على دراية مُعتبرة بهما. وبذلك قلّل القروي، من حيث يدري أو من حيث لا يدري، من قيمته الاعتبارية في نظر الجمهور المتقبّل، وأقرّ لمنافسه بالتفوّق عليه في مستوى الفصاحة والدّراية بالقانون. وأدّى ذلك إلى ميل القلوب إلى قيس على حساب نبيل منذ ضربة البداية.
الموقف الثاني الذي أحدث الفارق بين المتنافسين كان إبّان الإجابة عن سؤال: هل أنتم مع النّص على تجريم التطبيع مع إسرائيل في الدستور التونسي؟ كان ردّ قيس سعيّد واضحا، مفصّلا، حاسما في هذا الشأن، قائلا "مَن يتعامل مع كيان محتلّ، غاصب، شرّد شعبا كاملا لمدّة أكثر من قرن، خائن، ويجب أن يُحاكم بتهمة الخيانة العُظمى. إنّها قضيّة شعبٍ محتلّ، ما زال مشرّدا في المنافي وتحت الخيام.. نحن نتعامل مع اليهود لا مع الصهاينة، ونحفظ اليهود، سبق أن حميناهم من النازية خلال الحرب العالمية الثانية". لقي ذلك الموقف تأييدا معتبرا من معظم التونسيين الذين يطالبون بحلّ عادل للقضيّة الفلسطينية. في المقابل، بدا نبيل القروي 
متردّدا عند الإجابة عن السؤال المذكور. صمت هنيهةً، فرك أصابعه، همهم، ثمّ قال: "نعم"، وأخبر بأنّه صديق للرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، وينهج نهج السلطة الفلسطينية في هذا الخصوص، وهي سلطة تتفاوض مع إسرائيل، وتتعاون عمليّا معها في مستوى التنسيق الأمني والاقتصادي. ومن ثمّ بدا موقف القروي مرتبكا، ميّالا إلى المهادنة أكثر منه إلى المقاطعة. ولم يرُق ذلك الموقف لناخبين تونسيين يكنّون تعاطفا مبدئيا مع الشعب الفلسطيني، ويرفضون بشدّة الانتهاكات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، وسياسات التمدّد الإسرائيلي. لذلك يبدو أنّ نسبة مهمّة من المقترعين صوّتت لسعيّد تثمينا لموقفه من القضيّة الفلسطينية، ومن مسألة التطبيع. وهو موقف يرى ملاحظون أنّه مبدئي، ويراه آخرون ظرفيا، براغماتيا، موجّها للتسويق الدّاخلي لأغراض انتخابية.
في مستوى آخر، وبالسؤال عن موقف المترشّحيْن من مآلات قضيّة اغتيال المعارض الماركسي، شكري بلعيد، والتدابير التي يمكن أن يتخذها كُلّ منهما في هذا المضمار. ذهب القروي إلى أنّه سيُحدث محكمة خاصّة (استثنائية) للنّظر في هذا الملفّ ومتابعته، وهو أمر ليس من صلاحياته. أمّا قيس سعيّد فتمسّك بإحالة الملف على الدوائر القضائية المعنية، والتسريع في إجراءات التقاضي، متمسّكاً باستقلالية القضاء، منبّهاً منافسه إلى أنّ "إحداث محكمة استثنائية ممنوع بموجب الفصل 110 من الدستور". وتكمن خطورة موقف القروي في أنّه يؤدّي عمليّاً إلى إحداث قضاءٍ مواز، وإلى التشكيك في نزاهة القضاة، وتكريس سطوة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية. ودلّ سوء تقدير القروي في هذا المضمار على تقصيره في تمثّل محامل الدستور، خصوصاً ما تعلّق بصلاحيات رئيس الجمهورية. ولم يجد موقفه قبولا لدى معظم الناخبين، لأنّ إحداث محاكم خاصّة اقترن في الذاكرة الجمعيّة التونسية بإحداث محكمة أمن الدّولة التي عانى حقوقيون، ونقابيون، ومعارضون تونسيون ويلات أحكامها الجائرة.
وفي إجابة عن سؤال: ما هي الحالة القصوى التي يُمكن أن تقدّم فيها استقالتك من رئاسة الجمهورية؟ قال قيس سعيّد "سأقدّم استقالتي في صورة عدم قدرتي على تحمّل الأمانة، وسأتوجّه إلى الشعب وأعلمه بالحقيقة كاملة.. لن أكون شاهد زور، ولن أختم قوانين لا تخدم مصالح الشعب". وقال نبيل القروي: "الحالة الوحيدة التي أستقيل فيها هي عندما أمرض بالسرطان. وقتها أعرف أنّي لم أعد قادرا على فعل شيء، وليس باستطاعتي تقديم شيء. ولهذا أستقيل". خلّف ذلك التصريح المباشر من القروي موجة استياءٍ واسعة في صفوف المشاهدين عموما، والمصابين بالسرطان خصوصا، لشعورهم باللاجدوى، والإحباط، والعدم، بسبب ما أدلى به مرشّح محتمَل للرّئاسة. وفي هذا السياق، نشرت جمعيّة تونسية معنيّة بمكافحة السرطان رسالة من مصابة بالسرطان إلى القروي، جاء فيها: "يا سي نبيل.. ما هي الرسالة التي أوصلتها اليوم إلى مرضى السرطان؟ ضمّوا أيديكم وانتظروا الموت؟! أيّ أمل بعثته فيهم؟!... تصوّر كم طفلا صغيرا يتفرّج عليك وهو مريض. لقد حطّمته.. حطّمت أحلامه وآماله.. رئيس الدولة مسؤول عن كلّ كلمة يقولها.. أنت لا تتعدّى أن تكون نقطة سوداء في تاريخ تونس، أو بالأحرى لن يذكرك التاريخ.. نحن مرضى السرطان عُشّاق التحدّي، وسننتصر على المرض". ويعتقد ملاحظون أنّ تصريح القروي في هذا المستوى من المناظرة سقطة أخلاقية، عصفت بحظوظه في الفوز بالرّئاسة، وأدّت إلى انفضاض الناخبين من حوله.
حاول نبيل القروي بعد انتهاء مدّة المناظرة (ساعتان) أن يتدارك قُصوره التعبيري، وارتباكه الاتّصالي، فطلب من مُنشّطي (مديريْها المذيعيْن) المناظرة إضافة دقيقةٍ لتقديم كلمة أخيرة للمشاهدين فاستجابا لطلبه. دقيقة قضت على ما تبقّى للرّجل من أمل في الظفر بالرّئاسة، ذلك أنّه لم يستغلّها لتجميع التونسيين، بل مرّر خطابا يُفرّقهم قائلا: "مشروع قيس سعيّد وأتباعه مشروع وُالت دِيزنِي (منتج رسوم متحرّكة).. قيس سعيّد رجل نظيف، محترم، لكن خلفه هناك نمور. خلفه أحزاب شرسة مثل حركة النهضة وحُلفائها". حمل الملفوظ طيّه سخرية، وكراهية، واستخفافا بإرادة طيفٍ معتبر من التونسيين، ومحاولة للتخويف منهم، والتحريض
عليهم من خلال تشبيههم بالنمور، ونعتهم بالشراسة، وتعمّد إلحاقهم بحركة النهضة، والحال أنّ أنصار سعيّد هم من أطياف حزبية وغير حزبية مختلفة. وكان ردّ قيس سعيّد قاضيا، حاسما: "شباب تونس ليس دُمًى متحرّكة. ليس ورائي إلاّ هؤلاء الشباب المؤمنون بالتغيير. الشعب التونسي لن يعود أبدا إلى القفص. انطلق نحو بناء جديد للتاريخ. ولن يقبل بالفتات". كانت لتلك الكلمات طاقة تأثيرية كبيرة في الناس، لأنّها عظّمت الشعب التونسي، وشكّلت خطابا ختاميّا حالما، واعدا بغد أفضل، وبمزيد الحرّية والفعل في التاريخ، فشنّفت الآذان وهزّت القلوب. والخواتم أعلق بالأذهان، لا محالة.
صحيحٌ أنّ قيس سعيّد لم يُقدّم في تلك المناظرة برنامجا انتخابيا واضحا، ووقع في التكرار مرارا (فكرة النظام المجالسي وسحب الوكالة)، وعوّل على حضوره البياني، لا الحجاجي. وبدا ثورجيّا في بعض الأحيان أكثر من اللازم. ولكنّ الثابت أنّه قدّم خطابا مطمئنا، جامعا، واثقا، مسؤولا، انحاز إلى حقوق الشباب، وتطلعات الناس إلى الكرامة، والنزاهة، والعدالة. أمّا نبيل القروي فبدا مرتبكا، متردّدا، ولم يُقدّم خطابا تأليفيّا، جامعا. بل ارتكب أخطاء اتّصالية عدّة، باعدت بينه وبين جمهور الناخبين.
ويمكن القول إنّ المناظرة الرّئاسية ساهمت في ترسيخ الديمقراطية، وساعدت النّاس على استجلاء ملامح المُرشّحيْن إلى الرّئاسة، وساهمت في توجيه السلوك الانتخابي على كيفٍ ما.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.