ممنوع أن تكون سورياً مُعتدلاً
والمقال الذي كتبته وقتها، بداية 2011، مُستند إلى حادثة مؤلمة، لا زلت أنطوي من الألم حين أستعيدها. كنت لا أزال طبيبة عيون في المشفى الوطني، وشهدت، كما شهد مئات من العاملين في المشفى، مأساة تتشكل في سورية. وجدت شباناً من الثوار مضرجين بالدماء، ومتأذين إلى درجة رهيبة، منهم من فقد عيناً، أو من تمزقت رئته، أو أصيب دماغه، وكانوا يُسعفون إلى المشفى، وهم في زهرة العمر، ويوضعون في غرف مقابلة للغرف التي تضم عناصر من الجيش العربي السوري، إصاباتهم وأذياتهم لا تقل خطورة عن إصابة أشقائهم الثوار. كنت أقف في الرواق، المُعتم كقلبي، بين الغرف، أنقل نظري بين شبان سوريين، عُطبوا وتحولوا معاقين، وتم تصنيفهم هؤلاء مع النظام، وهؤلاء مع الثورة، ومعظمهم لا يدركون أبعاد هذا التصنيف، وكيف أن جهات عديدة تزج بهم في فوهة المدفع وفي قلب المعمعة، ليقوموا بدور ومهمة هم أنفسهم لا يستوعبون أبعادها، بل انقادوا إليها غريزياً، وبكل أشكال التحريض الخبيثة الممكنة. كنت أنظر بعيون دامعة إلى الغرف المتقابلة للثوار، ولعناصر الجيش العربي السوري، وأهمس لنفسي: هؤلاء شبان سورية. ويعذبني أن أتخيلهم في مرج أخضر، يفترشون العشب الندي، ويلعبون طاولة زهر أو الورق، ويدخنون الأركيلة، وحولهم زوجاتهم وأطفالهم. الآن، سيكون مصير هؤلاء المعطوبين الموت، أو إعاقة تجعلهم وتجعل أسرهم تعاني مدى الحياة.
انهالت علي التخوينات، بعد نشر ذلك المقال. أطراف من النظام خونتني، لأنني سميت أولئك الشبان الذين ثاروا مطالبين بالحرية والعدالة والكرامة ثواراً. وخونتني أطراف من المعارضة، لأنني تعاطفت إنسانياً ووجدانياً مع عناصر من الجيش السوري. ولا أنسى أبداً وجه أيهم، وهو جندي عمره 22 عاماً، من قرية قرب حمص، التقيته في المشفى الوطني، وقد تمزق طحاله وجرحت رئته، فكان لا يستطيع التنفس إلا بمساعدة جهاز، وكان مصاباً بكسور عديدة. ولما أراد التلفزيون السوري إجراء مقابلة معه، رفض، لأنه خشي أن يراه أهله على شاشة التلفاز فينهاروا. كان يتحدث إليهم كل يوم من هاتفه الخليوي ليطمئنهم أنه بصحة جيدة.
ليست المشكلة الرهيبة والخطيرة في سرد تلك الوقائع، بل في العقلية التي تقف خلفها وتُفرزها.
بعد أكثر من ثلاثة أعوام، يخونني رأيان مكتوبان تعليقاً على مقالي الذي كتبته نهاية 2014 (مؤامرة بندر بن سلطان) بسبب مقال نشرته في بداية 2011، لمجرد أنني تعاطفت إنسانياً ووجدانياً مع شبان سوريين، لم أشأ، ولا أريد، أن أصنفهم مع أو ضد. إنهم جميعاً شبان سورية الحبيبة. إنهم إخوة في الإنسانية والوطن للجميع وليس لأحد الأطراف، وهم لو خُيروا، لما أراد أي منهم أن يؤذي أخاه الذي قد يكون زميله في الدراسة أو قريبه أو جاره. كيف يمكنني ألا أتعاطف مع شاب مهما كان انتماؤه وقد صار مُعاقاً، ودخل في غيبوبة الموت، بدل أن يكون مصيره الحياة والحب والحياة الكريمة. التعليقان المتطابقان على مقالي الأول مُزوران أيضاً، لأنهما يجتزئان جملاً معينة، ويستعملانها لتخويني.
لا ألوم هؤلاء فهم أحرار، وحين يكتب كاتب نصاً أو مقالاً لا يعود ملكه، إنه ملك القارئ، ويحق للقارئ أن يحاكم الكاتب كما يرى، ويفكر، لكن ما لاحظته، طوال سنوات الأزمة السورية الأربع، في طريقة التفكير في عالمنا العربي عموماً، التشنج والتطرف في الرأي، والإصرار على تصنيف الآخر مع النظام أو المعارضة، وإن لم يكن مع أحدهما يُشطب وتداس إنسانيته. ممنوع أن تكون معتدلاً، ممنوع أن تكون مع الإنسان، عليك أن تكون متطرفاً، فالكل يهلل لك وتتنافس عليك الفضائيات وجرائد عديدة. أما أن تكون منطقياً، وغير منتم لطرف ضد آخر، فأنت تستحق النبذ والشتائم والتخوين. أن تتحدث عن الإنسان ومعاناته وألمه وخساراته ويأسه، وترى أن الكل خاسر، فهذا سبب لنبذك وتخوينك، لأنك يجب أن تصنف نفسك، على الأصح أن تقبل أن يُصنفوك هم، أصحاب القرار الذين يلعبون بمصير الشعوب المغلوبة على أمرها ويسرقون ثرواتها ويقتلون شبانها وأطفالها بدم بارد، ويذيعون، بكل أناقة وحرفية مذيعيهم ومذيعاتهم، النشرة اليومية لعدد القتلى والنازحين.
أسأل الآن، في نهاية عام 2014 الكارثي والدامي في سورية، ومع بداية عام جديد، لا يحمل بوادر أمل بوقف القتل، وبحل يرضي الجميع. أسأل، مع ملايين السوريين المُروعين والخاسرين والذين فقدوا أبناء وأطفالاً، سواء كانوا من الجيش الحر أو الجيش العربي السوري، أو أيه فصائل عجيبة بأسمائها وطروحاتها اللامعقولة والقائمة على رفض الآخر حتى درجة قتله، أسأل: كيف سنتوصل إلى حل في تربة الحقد والتخوين ونبذ الآخر؟ والأهم احتقاره ورفضه، لمجرد أنه مع الإنسان فقط، مع المخلوق الذي خُلق على صورة الله ومثاله.
لا أجد تناقضاً بين مقالي في أوائل 2011، وأنا أقف في المنتصف أتأمل شباناً سوريين ثواراً ومن الجيش السوري، عُطبوا وفسدت حياتهم وانجروا إلى حرب لا يريدونها، وإلى معركة ليسوا سوى أدوات فيها. لا أشعر بالخوف ولا الخجل، إذ أعلن، بصوت مرتفع، أنني أحب الاثنين بالقوة نفسها، وأنني، في كل مرة، أستعرض وجوههم المتألمة، المُتعبة والمشوهة، يغوص قلبي في هيولى لزجة من الألم الحارق. وفي كل مرة، وبعد طعنة الألم في قلبي، أتخيلهم في مرج أخضر، أصحاء يضحكون وحولهم شابات عاشقات، وزوجات، وأطفال، أتخيلهم أصدقاء وأخوة في وطنٍ، هو للجميع، اسمه سورية.
سورية التي يريد كل شياطين العالم تفتيتها وتدميرها وقتل شعبها وقتل حب الحياة في روحه، ودفعه إلى رمي نفسه في البحر لينجو من جحيم الموت والقهر. وأنجح أسلوب يتبعه هؤلاء الشياطين هو أن يكون لك موقف معاد لطرف آخر، هو أن تندرج مع أو ضد، وإلا فلا تكون، تتحول شبحاً، تتحول إلى لا شيء، وتسقط عنك صفة الإنسانية، لأنك مع الإنسان فقط. مع عبارة أخي في الإنسانية. لأن هذه العبارة أخطر من أكثر الأسلحة فتكاً. الحل في سورية من أجل بناء وطن الحرية والكرامة والعدالة، هو في يد السوريين، أن تحل المحبة محل الحقد، وأن يصير الآخر أخي في الإنسانية، وشريكي في وطن سنعيد بناءه، لا أن يتبادل الناس نظرات الحقد، ويصنف كل واحد الآخر على أساس انتمائه السياسي، والكل خاسر.
الحل في سورية كان ممكناً منذ البداية، لو لم يكن هناك رواق معتم في المشفى الوطني يفصل بين غرفتين، واحدة لشبان معطوبين وجرحى من الثوار وغرفة مقابلة لجرحى ومصابين من الجيش السوري. أتخيل ذلك الرواق شرخاً في جسد وطن جميل اسمه سورية. حبذا لو يحمل العام الجديد أملاً بسيطاً واحداً، هو أن يتفق الجميع على حب سورية، وأن ينظر كل سوري لأخيه، ويشعر أنه توأم روحه وشريكه في الإنسانية والوطن.