ممرضتي، "الروبوتة" سِلفي

07 ديسمبر 2015
+ الخط -
لم يعش صاحبي إلا أسبوعاً من هذه الحرب اليمنية التي فجّرها المخلوع ومعتوه صعدة نهاية مارس/ آذار 2015، لإحراق عدَن والانتقام من كلّ اليمن. وبعد هذا الأسبوع الذي شهّد وكبّر خلاله مليون مرّة في اليوم، هو الذي ظنّ أن عِرق إيمانه الديني رخوٌ جدّاً، نقلوه إلى مستشفى باريسي راق.

كان قد عرف المستشفى في حياته مرة واحدة فقط؛ عام وصوله للدراسة في باريس، ولمجرد عملية اقتلاع إصبع زائدة لا غير. لا يتذكّر من إقامته في ذلك المستشفى، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، غير لحظة واحدة: امتنانه من ممرضة شابة جميلة جداً، طيبة جداً، سقط قلبه بحبها، أعطاها وهو على الفراش هدية بريئة صغيرة: قطعة Chewing Gum (لبان). شكرته، ووضعتها في جيبها، على نهدها قائلة: "سأحتفظ بها قرب قلبي، وسألوكها هذا المساء، بعد العمل". أغشي عليه حينها، حال سماع "سأحتفظ بها قرب قلبي!"، من فرط تفجّر سعادته ونشوة أحلامه.

لم ير الممرضة مرة أخرى، لأنه غادر المستشفى في اليوم التالي قبل عودتها للعمل. عاد عشرات المرات من دون أن يلمحها. وفي كل مرّة كان ينتصب في رأسه قصر جديد من الغرام. إلى أن رآها ذات يوم، واكتشف بكل حزن الدنيا أنها نسيته تماماً، لأنها ترى العشرات مثله يومياً وتعاملهم بالطيبة نفسها. ثم إنها كانت راجعة "للتوّ من شهر العسل"، كما قالت سامحها الله.
"أمّ الجن!"، خانته أمامها هاتان الكلمتان بالعربية حينها.

اقرأ أيضًا: من كتب غلب ومن رقمن هيمن

أمّا أثناء عودته للمستشفى هذه المرة، في هذا اليوم الماطر الكئيب من نهاية مارس/ آذار 2015، فلم ير ممرضات، إذ تمّ استبدالهنّ في هذا المستشفى التجريبي الحديث، بروبوتات نسائية معدنية بيضاء أنيقة. لهنّ الصدر الفخور نفسه الذي للممرضة التي أهداها الـ Chewing Gum. يحملن العلاج إلى المريض، يأخذن درجة حرارته وضغطه، يتكلمن معه بصوت مُسكر ناعم رقيق، ويراقبن حالته الصحية أوّلاً بأوّل، ليل نهار، لا ينمن ولا يأخذن إجازة أسبوعيّة أو شهر عسل.

النتائج الأوليّة لتجربة روبوتات الممرضات باهرة. مثلها مثل تجربة السيارات بدون سائق التي ستجتاح قريباً مواصلات اليوم: خفّت حوادث الاصطدامات المرورية بفضلها بنسبة 77٪.
حتّى القابلات صرن في هذا المستشفى التجريبي، روبوتات. نتائج تجارب "الولادة بدون ألم وبالروبوتات" حوّلت الإنجاب "سهلاً كبعث رسالةٍ بريدية"، كما يقول تعبير فرنسي تقليدي، لم يحدَّث حتى اليوم، ليُستبدل بـ "سهل كبعث رسالةٍ إلكترونية".

ومع ذلك، النسبة السنوية لعدد المواليد هبطت في كلّ أوروبا بأرقام مفجعة. صار الإنجاب، في عالم ملغّم بالأزمات والحروب والتفجيرات الإرهابية، مغامرة مجنونة.

اقرأ أيضًا : حياتنا كما يراها فلكي من كوكب كوبرافيا

لا يمنع، استخدام الروبوتات كقابلات ماهرات لا يرتكبن خطأ، وجود حالات عُسْر ولادة طبيعية. هذا ما حدث البارحة لابنة جارتي التي غامرت بحمل طفل في هذا الزمن "الشواشي"، ولم يحالفها الحظّ بإنجاب ميسّر ناعم، رغم أن قابلتها أفضل "روبوتة".
كانت تئن وتتأوّه وهي تتعثر في الدفع. رأس طفلها يطلّ ببطء، مدعوكاً "مهفوساً" مضرّجاً بنزيف. تتشبّث يدها اليسرى بمقبض السرير، وبيدها اليمنى تبحث عن الهاتف أسفل المخدّة. تجده تحت الأذن مباشرة. تأخذ صورة "سِلفي" وهي تصرخ، مثل طفلها المنكود، في أوج أوجاع المخاض!

يزحف الطفل المسكين بصعوبة نحو عالمنا الدنيوي، يتدحرج مُرغماً ومُشقلباً بيد القابلة الروبوتة التي تسيطر على الوضع قدر ما تستطيع، فيما ابنة جارتي منهمكة بِبعث إيميل جماعي من هاتفها، ترافقه الصورة السِلفيّة، لقائمتها البريدية التي تضمّ 475 زميلاً وصديقاً، لتنصح صديقاتها في القائمة "بعدم التورط في مغامرة الحمل الكابوسية!"، كما تقول.

مثلي، لا يفهم صاحبي، وهو يسترجع أحداث الحرب في المستشفى، شيئاً مما يحدث في حروب التدمير الذاتي العربية. لكنه يعتقد فقط أنه غير قادر على العودة مرّة أخرى إلى اليمن، بعد ذلك الأسبوع الذي تدحرج قلبه فيه في قاع أحشائه، من الخوف ألف مرّة.

كلّما وصل إلى هذه القناعة الوجوديّة بعدم العودة مطلقاً إلى اليمن، لاحظ كما لو أن ممرضته الروبوتة (اسمها "سِلفي"، لها قامته نفسها، بيضاء لامعة ورشيقة بشكل آسر) تبتسم له، وتقرأ أفكاره، وتشجّعه على هذا القرار الحكيم المبارك الذي تتحسّن بعده، كما يبدو على الشاشاتِ المرتبطة بأحشائها الإلكترونية، المنحنيات البيانية لخفقات قلبه واضطراباته العصبية.

اقرأ أيضًا :  ماكينتوش وسط زبالة

صار ممتنّاً من خدمات هذه الروبوتة الهيفاء الممشوقة. لكن كيف له أن يعطي الآنسة سِلفي هدية حميمة تضعها في ضواحي قلبها: قطعة Chewing Gum؟

يمكنه بطبيعة الحال أن يدعوها لأخذ صورة "سِلفي"، كما فعل فعلاً، وينشرها على صفحة الفيسبوك بعنوان فجّر شلالات من اللايكات الفيسبوكية: "سِلفي مع سِلفي". وصورة أخرى وهو يحمل هاتفاً بكل يد، يأخذ بأحدهما سِلفي لها معه، يعنونها: "سِلفي وأنا آخذ سِلفي مع سِلفي"، حيث صارت الموضة الآن: أن يأخذ المرء سِلفي وهو يأخذ سِلفي. أليس "عشقُ العشق أعلى مقامات العشق!"؟. لحسن الحظ أن ابن آدم ليس من فصيلة "أبي سبعة وسبعين".
كلّ ذلك ممكن جداً، لكن كيف لِسِلفي أن تلوك بعد الدوام، هي التي لا تنام، قطعة Chewing Gum؟

قبل مغادرة المستشفى، قابلَه الأخصّائي الذي قال له إننا "سنرى بعضنا بعضاً كثيراً في الأيام والسنوات القادمة".
لم يكن كلام هذا الطبيب الذي لا يميل إلى بيع الأوهام، مشجّعاً جداً. ذلك يعني أن قلب صاحبي "حالته حالة". ثم أضاف الأخصائي لتلطيف الجو: "قبل أن يستبدلوني بطبيبٍ روبوت".

نصح الطبيب صاحبي، عندما حدَّثه عن إعجابه الهائل بطاقم روبوتاتهم التجريبية من الممرضات، بشراء روبوت منزلي، "بعد أن انخفض أسعار أفضلهم مؤخراً إلى 12 ألف يورو"، كما قال.
"سيساعدك في حياتك المنزلية، لا سيّما أنك تعيش وحيداً. وسيرتبط بشبكة كمبيوترات المستشفى عن بُعد، ويمدّها بأخبار أحوالك الصحية، ويستمدّ منها بعض المعلومات والتعليمات لتحسين مراقبة حالاتك. وسيبعث لوحده نداءً عاجلاً لسيّارات إسعاف المستشفى إذا لاحظ أنك أُصبت بمكروه". قال الأخصائي الذي يبدو أنه يرى من الآن صاحبي جثّة هامدة في سيّارة الإسعاف.
دلالات
المساهمون