مما سيذكره التاريخ
سيذكر التاريخ أن ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، لم يتمكّن فقط من ثني إسرائيل عن ضم أراض فلسطينية جديدة إليها، بل وأجبرها على إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم الإماراتي، في حين تمنّعت الأبراج في الإمارات عن التزين أو الإضاءة بالعلم الإسرائيلي! وبينما استهلت الإذاعة الإسرائيلية، صباح اليوم التالي للإعلان عن الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي، بالقول، وباللغة العربية، "صباح الخير لسكان الإمارات العربية المتحدة من أورشليم القدس، نبارك لكم الاتفاق التاريخي"، لم تسمع في المحطات الإماراتية أي جملة عبرية، ولا حتى كلمة "شالوم".
وسيذكر التاريخ أيضاً، أن التطبيع الكامل مع إسرائيل قد أتى في سياق استراتيجية هجوم السلام التي وضعها بن زايد مستعيناً بكبار مستشاريه، وأحدهم قائد معركة خسارة حركة فتح قطاع غزة، حيث أدّى ضخ الأموال الاماراتية في الأسواق الإسرائيلية، والاستثمار في معظم القطاعات، صناعة، تجارة، زراعة، سياحة، إلى سيطرة الإمارات على مفاصل الحياة الاقتصادية في إسرائيل. واكتساح الدرهم الإماراتي الشيكل الاسرائيلي، وهيمنة اللغة العربية على ما عداها من لغاتٍ، سيما العبرية منها.
سنقرأ أن الإمارات، رأس حربة الثورات المضادّة للربيع العربي نجحت في ما فشلت فيه مصر السادات ومبارك والسيسي، حيث قادت قطار التطبيع العربي، بعد أن انضم إليه ركّاب جدد
ولأن السياسة انعكاس للاقتصاد، فقد تحكّمت الإمارات بالحياة السياسية الإسرائيلية، وفرضت على الإسرائيليين المفاضلة بين خياريْن أحلاهما مرّ، إما القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي التي هجّروا منها عام 1948، أو إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة من النهر إلى البحر. وبذلك، استعاد الفلسطينيون، بعد طول انتظار، جميع حقوقهم المشروعة، وبرفقة الملايين من الحجيج، دخل محمد بن زايد، ممتطياً صهوة ناقته، القدس فاتحاً! ذات مرة، قال الرئيس السوري، حافظ الأسد، إن فلسطين قبل الجولان، لكنه لم يحرّر لا فلسطين ولا الجولان. أما بن زايد، فقد اقترنت أقواله بالأفعال، حيث حرّر فلسطين قبل، طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، ومن ثم تابع الفاتح العظيم معاركه، واستعاد جزره المحتلة هذه من إيران.
لكن، وفي رواية أخرى عن الاتفاق/ التحالف الإسرائيلي الإماراتي، ستخبرنا كتب التاريخ أنه بينما كانت إسرائيل تُمعن في عدوانها على الفلسطينيين، وتوسّع من استيطانها في الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي، ترامب، اعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، كان رد الإمارات على ذلك كله، وعلى "صفقة القرن"، أن أعلنت الاعتراف بإسرائيل والتطبيع الكامل معها، وبذلك قدّمت خدمة جليلة لحمامتي السلام، ترامب ونتنياهو، في معركتيهما الانتخابيتين؟! المفارقة/ المصادفة أن الإعلان عن الاتفاق في 13 أغسطس/ آب جاء بين ذكرى مجزرتين! بعد يوم من إحياء ذكرى مجزرة تل الزعتر التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه في لبنان بحق الفلسطينيين في 12 أغسطس/ آب 1976، وقبل يوم من إحياء ذكرى مجزرة ميدان رابعة التي ارتكبها نظام عبد الفتاح السيسي بحق المعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة بتاريخ 14 أغسطس/ آب 2003.
سنقرأ في كتب التاريخ عن سقوط ورقة التوت، فلسطين التي كانت تستخدمها الأنظمة العربية، الممانعة منها وغير الممانعة، لتغطية عجزها وتخاذلها
سنقرأ أن الإمارات، التي شكّلت رأس حربة للثورات المضادّة للربيع العربي نجحت في ما فشلت فيه مصر أنور السادات وحسني مبارك والسيسي، حيث قادت قطار التطبيع العربي، بعد أن انضم إليه ركّاب جدد ( البحرين وعُمان و.. إلخ). وجرى التطبيع مع إسرائيل خلافاً لما جاء في المبادرة العربية للسلام التي أقرت في بيروت عام 2002، من دون تقديم أي تنازلاتٍ للعرب والفلسطينيين.
وسوف نقرأ، أيضاً، أنه بينما كانت حركة مقاطعة إسرائيل، سيما منها المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية، تحقق نجاحات في العالم، وتزيد من عزلة إسرائيل، وتوسع من المؤيدين للقضية الفلسطينية، شرع الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي أبواب الخليج وغيرها من الدول العربية للاستثمارات الإسرائيلية، وأغرقت الأسواق العربية بالمنتجات الإسرائيلية. أما في أسفل هذه الصفحة من كتاب التاريخ، فستدوّن كملاحظة، أن عناصر من الموساد كانوا يسرحون ويمرحون في دبي وأبوظبي.
وفي المقابل، سنقرأ في كتب التاريخ أن سقوط ورقة التوت، أي فلسطين، التي كانت تستخدمها الأنظمة العربية، الممانعة منها وغير الممانعة، لتغطية عجزها وتخاذلها، ورفضها الانصياع لمطالب شعوبها في الديمقراطية والعدالة والمساواة، كان له نتائج إيجابية على القضية الفلسطينية، وعلى قضايا الشعوب العربية. سنقرأ أن كفاح الفلسطينيين من أجل نيل حقوقهم لم يتوقف، وأن الشعوب العربية، على خلاف حكامها، رفضت التطبيع، وأفشلت كل محاولات طي وعيها الوطني والقومي. وأن القضية الفلسطينية احتلت مكاناً أكبر من قبل في وجدان المواطن العربي، من المحيط إلى الخليج، وأن الربيع العربي عاد وأزهر، ووصل هذه المرّة إلى الإمارات العربية المتحدة.