ملحمة "تحضير" ذئاب منغوليا

22 مارس 2015
+ الخط -

كيف تُمكن قراءة تكليف الحكومة الصينية مخرج "سبعة أعوام في التيبت"، الفرنسي جان جاك أنّو، بإخراج فيلم ملحمي مستوحى من كتاب صيني يعدّ الأكثر مبيعاً عن الصدمة الحضارية "المُهلوَدة" (نسبةً إلى هوليوود) بين "الرجل الأبيض" الصيني وذئاب منغوليا، وذلك بميزانية خيالية تقارب الأربعين مليون دولار؟

صار بوسع المرء أن يتساءل ما إذا كانت الخطوة التالية ستتمثل في إقدام الحكومة الصينية بنفسها على تمويل الفيلم المقبل عن التيبت المُهلوَد، فيفتتح ذلك فصلاً هزلياً جديداً في العلاقة المعقدة بين الدالاي لاما، الذي عرف كيف يسوّق لنفسه ولمحافظته الانفصالية بنجاح منقطع النظير في سوق الروحانيات الهوليوودي والغربي؛ والحكومة الصينية البراغماتية التي عرفت كيف تحجز حصتها في البيزنس الروحاني الناشئ وتستثمر في السياحة الغربية المتدفقة إلى التيبت المقموع.

نعود إلى فيلم جان جاك أنّو "الذئب الأخير"، المستوحى من كتاب جيانغ رونغ "طوطم الذئب". تدور أحداث العمل في خضم الأزمة الشاملة التي طبعت التاريخ الصيني الحديث وأُطلق عليها الاسم الإشكالي "الثورة الثقافية". تقوم السلطات الثورية بإرسال مجموعة من الشباب المتعلمين من بكين إلى مقاطعة منغوليا لتعليم البدو الرعاة المغول لغة الماندرين وأساليب العيش "المتحضر". ويظهر لاحقاً أنهم البعثة الأولى في حملة لاستيطان المقاطعة.

توكل إلى الطالب البكيني شين تسين وصديقه مهمة تلقين التحضّر إلى قبيلة مغولية بدائية تتخذ من الذئب طوطماً. إلا أن العكس هو الذي يحصل. يقع شين تسين في سحر الزعيم العجوز والحكيم الذي يتبنّاه كابن له ويلقنه تقاليد ومعتقدات القبيلة التي تعيش منذ آلاف السنين مع الذئاب والطبيعة في سلام ووئام طوباويين، وتتماهى معهما في علاقة صوفية طوطمية. يتضح أن العلاقة الروحية التي تربط قبيلة الرعاة بقبيلة الذئاب هي في الآن نفسه علاقة عضوية.

يتعلم الرعاة من الذئاب فنون الصيد والحرب. وفي الشتاء، تدفع هذه الأخيرة طرائدها إلى بحيرة متجلدة هي أشبه ببراد طبيعي يحفظ لحمها من الفساد. يتقاسم الرعاة مخزون البحيرة مع الذئاب، لكن من دون أن يأخذوا أكثر مما يلبي حاجتهم ويفيض عن حاجة الذئاب، ما يسمح لهم بالصمود حتى الربيع.

يبدو الرعاة كذلك مهتمين بالتوازن البيئي، فهم لا يريدون أن تتكاثر الغزلان بحيث تلتهم كل العشب في البرية ولا تترك شيئاً للقطيع، ولا أن تتكاثر الذئاب بحيث تجوع وتهاجم القطيع. وفي النهاية، تكتمل علاقة التصوف العضوي بين القبيلة والطبيعة عند الموت، فهم لا يُدفنون، بل يمنحون لحمهم للبرية عرفاناً منهم بجميلها عليهم.

إلا أن هذا الوئام الطوباوي ينكسر حين تدفع السلطات إلى المقاطعة بمستوطنين جدد مع آلات زراعية حديثة، يرافقهم ضابط شيوعي مكلّف بالقضاء على الذئاب، "أعداء الثورة". هنا تبدأ حرب استنزاف طويلة بين الفريقين.

يقوم الضابط باستنفاد مخزون البحيرة لتجويع الذئاب ويقتل أطفالها وينشر الفخاخ للقضاء عليها، فترد هذه الأخيرة بعنف من خلال مهاجمة قطعان المغول والمستوطنين. مع بدء عملية التطهير العرقي، يقبض شين تسين على ذئب رضيع ويتبناه. حين تفهم السلطات أنها أساءت تقدير قوة الذئاب، ترسل مليشيا مسلحة للقضاء عليها.

يجوب الصينيون البرية بالجيبات والكلاشنكوفات، يصطادون الذئاب ويشعلون الحرائق لمحاصرتها في مشهدية ملحمية "أبوكاليبتية"، وحين لا يبقى سوى زعيم الذئاب الكاريزماتي ذي العينين الخضراوين والساحرتين، يقول الضابط لرجاله إنه يريده حياً، فتطارده الجيبات لساعات طوال.

في النهاية، يتوقف الزعيم المنهك، يحدق في خصومه بنبل وعنفوان، ثم يسقط ميتاً من شدة الإعياء. بالتوازي مع موت الزعيم الذئب، يموت زعيم المغول بعد أن يقع في فخ نصبه المستوطنون للذئاب، في رمزية لا يمكن للمرء أن يخطئ دلالتها. الذئب الأخير في الفيلم له ثلاثة وجوه: زعيم الذئاب وزعيم المغول والذئب المدجّن الذي رباه شين تسين. الأول والثاني يموتان معاً بعد أن عاشا متحدين بالعقد الطوطمي، ولا يبقى سوى الثالث.

من المؤسف أن المحللين الفرنسيين اكتفوا بالنقل الببغائي عن الحملة التسويقية للفيلم والحملة التسويقية للرواية التي سبقتها في الإعلام الغربي، ولم تستوقفهم كثيراً واقعة أن الحكومة الصينية هي التي موّلت هذا الفيلم الثوري! الفيلم لا ينتصر للمغول ولا يدين الصينيين بالمطلق.

في مواضع عدة، يتم الثناء على إيجابيات التقنيات الحديثة، ومن حين إلى آخر يسخر شين تسين المُتمَغوِل من خرافات المغول. موت الذئب المغولي يظهر بالأحرى كقدر محتوم، وهذا الأخير يعرف أن زمانه ولّى، بعد أن يقاتل حتى آخر نفس، هو يقبل مصيره بشجاعة وعنفوان، وينحني الصينيون أمامه احتراماً.

من وقت إلى آخر، ثمة لقطات فلاش باك من أفلام رعاة البقر والهنود الحمر، ولوهلة يخال لنا أننا نرى الصينيين شقراً بعيون زرقاء. لكن المخيلة الهوليوودية هنا مؤطرة جيداً بالكادر الصيني.

يظهر الفيلم أن السلطات الصينية لا تريد إبادة البدو المغول بل تدجينهم، وسور الصين العظيم، الذي لا ينفك يظهر في خلفية فيلم جان جاك أنّو، يذكّر بفارق جوهري بين الحضارة الصينية والحضارة الغربية التي لم تبن أسواراً بينها وبين العالم، كما لم تستطع أي أسوار أن تقف في وجه جيوشها وغزواتها. لكن الفيلم يرينا أيضاً بوضوح أن الصينيين "تغرّبوا" ولم يعودوا يختبئون خلف الأسوار.

المساهمون