يضطرب الأطفال والمراهقون عندما تغيّر الأسرة مسكنها، تصيبهم أعراض الفقدان بدرجات متفاوتة، لكنهم يستعيدون الشعور بالأمان والدفء الأسري والاستقرار بعد تكيّفهم مع المكان الجديد والغريب. فكيف الحال مع ملايين منهم رحلوا عن بيوتهم قسراً، وهجروا ملاذاتهم نحو المجهول؟
تخيفنا ضخامة الأعداد التي تدرجها التقارير الأممية، وتؤكد أن 31 مليون إنسان نزحوا داخل أوطانهم عام 2016، وأكثر من 65.3 مليونا لجؤوا إلى دول أخرى مع نهاية 2015، وإن نسبة الأطفال منهم تبلغ 51 في المائة، جميعهم وقعوا في فخّ التشرّد والتهجير بسبب الحروب والكوارث. غادروا ديارهم مجبرين نحو بيت أو خيمة، تحت سقف أو في العراء، لمكان آمن أو غير آمن، وبات التهجير بالنسبة لهم نقطة تحوّل في حياتهم صغارا وكبارا، ومسارا يحدّد مستقبلهم ويرسم صورته.
أعراض فقد المسكن والمستقر
اختصاصية علم النفس العيادي، والأستاذة في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت الدكتورة ريتا مرهج، توضح لـ"العربي الجديد" أعراض فقدان مكان الاستقرار والانتقال إلى مكان غريب. وتشير إلى أن "الأعراض تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى ومن طفل إلى آخر، فتغيير مسكن الأسرة في الظروف العادية يسبّب لدى بعض الأطفال أعراض الاضطراب والقلق وقلّة النوم. أما بالنسبة لأولئك الذين نزحوا أو لجؤوا إلى بيئة مختلفة تماماً عن منزلهم ومحيطهم السكني المألوف، وسط ظروف دراماتيكية وحروب ونزاعات مسلحة، فلا شك أن قلقهم واضطرابهم يزيد أضعافاً مضاعفة".
وتعتبر مرهج أن "أبرز أعراض ما بعد الصدمة التي يسببها الانتقال وظروفه المحيطة، التي تظهر جسدياً على الأطفال تتمثل بالتبول والتبرز اللاإراديين، ليلاً ونهاراً وحتى عمر الثماني سنوات في بعض الحالات، وعدم القدرة على التعبير والتواصل جيداً مع الآخرين، والرفض التام للطعام أو الشراهة المفرطة نتيجة تغير نظام الأكل المعتاد سابقاً، والتشنجات الجسدية بالفم أو العين أو الكتف أو غيرها والتي تظهر على شكل حركات لاإرادية، وربما تتطور إلى مرض يصعب علاجه لاحقاً، إلى جانب حالات الصداع وآلام المعدة".
أما أبرز الأعراض النفسية برأي مرهج فهي "القلق بكل أنواعه الذي يؤثر على سلوك الطفل ويجعله عدوانياً، ويزيد من عدوانية من لديهم هذه المشكلة السلوكية بالأساس، واضطرابات النوم والكوابيس المتكررة، والغضب الشديد في حال عجز الطفل عن التعبير عن مشاعره، والتعلق المرضي بالأهل أو من ينوب عنهم، فيبقى الطفل ملتصقاً بأمه ويبكي إن غابت عن نظره. وهنا نتحدث عن أطفال بعمر 9 سنوات أحيانا".
وتعرب مرهج عن قلقها من الأعراض الذهنية التي تظهر لدى الأطفال مثل "تشتت الانتباه، وعدم التركيز، واجترار الذكريات المؤلمة التي تصبغ حياتهم وتكبلهم وتظهر ليلاً على شكل كوابيس".
غياب التعليم والتربية يخلق جيلاً ضائعاً
بعد تحديد الأعراض الناتجة عن فقدان الأمان والاستقرار الأسري، تحدد مرهج طرق الدعم بمساعدة الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين والأسرة والجهات المساندة على اختلافها. وتولي التعليم الأهمية القصوى، وتقول "التعليم أحد أبرز مقومات المواجهة، لأن انتظام الأطفال والمراهقين بالمدارس مسألة شديدة الأهمية".
وتوضح أن "المدرسة لا تعني بالضرورة جدراناً وبناء، فأي خيمة أو غرفة مهجورة وأي مكان يمكن تحويله إلى صفوف يتلقى فيها الأطفال تعليمهم. لأن الأطفال والمراهقين خارج نظام الانضباط السلوكي والمعرفي، يؤسسون جيلاً ضائعاً".
وتشدد على أن "التعليم المطلوب ليس تعليم القراءة والكتابة فقط، فالأطفال في تلك الظروف غير الطبيعية يحتاجون إلى تعلم المهارات الاجتماعية، والتدريب على الانضباط الذاتي، والتعبير عن عواطفهم ومخاوفهم، وكيفية تقبل الآخر، والتشجيع على الثقة بالنفس وعدم التمييز، وكيفية حلّ النزاعات بينهم ومع الآخر بدون عدوانية".
وتشير إلى أن برنامج الدعم النفسي الاجتماعي في ظروف الطوارئ والنزاعات والمبادرات المنضوية تحت هذا العنوان الكبير، تظهر نتائجه لاحقاً إن لم نلمسها فوراً مع الأطفال.
وتحذر مرهج من مخاطر انقطاع ملايين الأطفال العرب عن التعليم لفترات طويلة، وتقول إنه إنذار مستعجل لأن استمراره يخلق جيلاً غير قابل للتعلم.
وتنبه إلى أن "وجود الأطفال والمراهقين وسط أزمة ممتدة لسنوات وهم خارج إطار المدرسة والضوابط على أنواعها، تجعل منهم أفراداً لا يريدون التعلم، وغير راغبين بالتخلي عن الأجواء المتفلتة من أي نظام أو قواعد، يجدون أنفسهم عالقين في مكان لا يشبه العيش الطبيعي، ومختلف عن حياتهم الأسرية السابقة".
كما تشدد على أن "التعليم لا يجب أن يتوقف مهما كانت الظروف، والمطلوب هو العمل على تكييف الظروف مهما بلغت قساوتها لإيجاد طرق لتعليم الأطفال ورعايتهم. المدرسة هي مبدأ أساس حتى في حالات الطوارئ والنزاعات، وهذا مبدأ عالمي ولم نخترعه".
التشرد يحوّل الأطفال والمراهقين إلى قنابل موقوتة
إلى ذلك تحذر مرهج من أن "الأطفال والمراهقون -سواء كانوا فتياناً أم فتيات- الذين يعيشون بدون قواعد سلوكية، وبدون روادع أو تنظيم للوقت، وبدون ضوابط تربوية وبلا تعليم وبرامج تحسّن مهاراتهم هم بلا شك قنابل موقوتة، لأنهم سيجدون بدائل يلجؤون إليها، كالمخدرات والانحراف السلوكي والعمل الإجرامي والتطرف".
وتؤكد أن "التربية تقي من مخاطر التشرد، ومن المشاكل خارج إطار المسكن والأسرة، وتنمي الثقة بالنفس وتمدهم بالقوة لمواجهة المخاطر".
وتشير أيضاً إلى أن "مرحلة المراهقة وحساسيتها، وهي مرحلة استكشاف للذات والآخر، ومرحلة البحث عن الهوية، لذلك يبحث المراهق عن عالمه خارج الخيمة أو المسكن المؤقت وسط المحيط الغريب. يريد أن يجد إجابات عن أسئلته الكثيرة ومنها من أنا، وما معنى حياتي، وما هو مستقبلي"؟
وتضيف "هي مرحلة دقيقة ومخيفة في الوقت ذاته، والمراهق الذي يعيش ظروفاً مأساوية يفتقد فيها الأمان والاستقرار والاهتمام يكون جاهزاً وحاضراً للجذب العقائدي المتطرف. لأن تلك الجهات تعطيه الأمل، وتنمي لديه في المقابل كره الآخر والنظرة السيئة تجاهه، وهكذا يسهل تحويل سلوكه نحو الإرهاب". واستندت بذلك، إلى تقارير بيّنت أن المراهقين من 16 إلى 21 عاماً هم الفئة الأكثر انجذاباً للتيارات المتطرفة، لأن العامل الديني والإيماني يقنعهم بسهولة.
أعداد هائلة تتخطى القدرة على الإنقاذ
التحديات كبيرة والحكومات تستجدي الدعم الدولي، والمنظمات الدولية تشكو عجز الميزانيات، والمجتمع المدني لا يستطيع وحده إنجاز ما عجزت عنه الأنظمة، لذلك نجد ملايين الأطفال والمراهقين ضحايا حروب أوقعهم فيها الكبار، وذنبهم أنهم ولدوا في المكان والزمان الخاطئين.
الحروب لم تتوقف، والنزوح واللجوء مستمران، والتقديرات تشير إلى أن شخصاً فرّ من منزله كل ثانية خلال عام 2016. أما بالنسبة للتعليم وضرورته، فمنظمة "يونيسف" تذكر أن هناك 12 مليون طفل في الشرق الأوسط خارج المدرسة، نتيجة الفقر والتمييز الجنسي والعنف. في حين تقدر "يونيسكو" وجود 58 مليون طفل في العالم بدون تعليم ابتدائي، و63 مليوناً محرومون من التعليم الثانوي.
لا بد من التمسك بالأمل
رغم مأساوية الأوضاع العامة، وصعوبة التحديات، تؤكد مرهج أن "إمكانيات الإنسان لا حدود لها، والنجاح متاح في شتى الظروف إذا أتيحت له ثلاثة عناصر أساسية وهي إمكانيات الفرد الذاتية، والدعم الأسري وسط الصعوبات، والدعم المجتمعي الذي يوفر المدرسة بالدرجة الأولى وشروط الحماية على أنواعها، وهذا الثلاثي هو الركيزة التي تحمي الأطفال والمراهقين في أثناء النزوح والتهجير والتشرد".
وتنبه مرهج من أن "التعميم لا يصح في علم النفس لأن التركيز ينصب على الفرد، واشتداد الأزمات بسبب الحروب والكوارث وما ينتج عنها من تهجير ونزوح ولجوء لا يعني أن وقعها سيكون واحداً على الجميع".
في المقابل تبين الاختصاصية، وجود استثناءات تخرج قوية رغم الصعاب، وتقول "إن بعض الأطفال والمراهقين يملكون صلابة داخلية ومرونة تقوي مناعتهم تجاه المآسي، لديهم قابلية للتكيف وهم بالطبع يملكون ذكاء نراه في نظرة عيونهم، نجدهم يتحدون الأزمات، ويتلقون التعليم المتوفر لهم بأية شروط، ويلتزمون ببرامج ومشاريع تقدمها منظمات وجمعيات الدعم والحماية التي تنشط في تلك الظروف".
وتشير إلى نماذج مميزة قابلتها خلال تجربتها الميدانية مع الأطفال اللاجئين على مدى سنوات، ممن يمتلكون ميزات شخصية وطباعاً تبث الإيجابية حولها، ومليئة بالتحدي والإصرار، وتمكنت من النجاح.