مكمن الداء في النظام العربي

25 يونيو 2014
+ الخط -

بات من الواجبات المحتمة على العرب أن يتوافقوا على استراتيجيةٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ واحدة، لأن من شأن التعارض والتشظي أن يوقع الخاسرة الفادحة بالجميع. ففي تطورات الأحداث في سورية، ثم في العراق، لم يعد ممكناً لأي نظام عربي أن يتحدث عن حدودٍ مصانة، وعن نأيٍ بالنفس، وعن وقايةٍ دائمةٍ من هبوب الرياح. فما سُمي "الربيع العربي" لم ولن يصبح وهماً، ولا خرافةً، يتندّر بها المتندرون، لأن مفاعيل الحراك الشعبي ما زالت جارية، وإن اتخذت أشكالاً عدة، وحّدت بينها الأسباب المتفرعة كلها عن معضلتين رئيسيتين: وهن السياسات وكُساح الأنظمة وحال الارتهان للأميركيين، وتردّي مستويات الحياة نتيجة تعطل مشروعات التنمية الشاملة بمفاعيل النهب المنظم وسوء استغلال الثروات أو المقدرات. فقد نامت الأنظمة طويلاً على وسادة الاطمئنان إلى موات الشعوب وخشيتها من الاستبداد الوحشي. وهذا هو نفسه الذي جعل رأس النظام السوري يتهلل فرحاً وشماتة، مع بداية الحراك الشعبي، ومع بدء ثورة تونس ثم انتقالها إلى مصر.
أيامها بشَّر "البشَّار" بأن لسوريا وضع مختلف، مطمئناً أصدقاءه إلى أن "الممانعة" اللفظية ومفردات خطابها هي الحجاب الواقي. لم يقرأ بإمعان خلفيات ما حدث في تونس، ولم يتأمل كون الرئيس المخلوع زين الدين بن علي لم يُقصّر خطابياً في مسألة السياسة الخارجية، ولم يكن أقل تعاطفاً ــ خطابياً ــ مع العراق ومع القضية الفلسطينية. كان الرجل يعتمد وصفة المستبدين الذين جعلوا أوطانهم ساحاتٍ وجماهير، لا أوطان ومواطنين، وظلت القوى القوى المهيمنة تختزل مهماتها في توجهاتٍ سياسيةٍ خارجية تدغدغ عوطف الجماهير، حيال قضية فلسطين، من دون الخوض جدياً في أية قضية داخلية. ولعل ما زاد هذا المنحى انكشافاً واستحثَّ سخرية الشعوب، ولا مبالاتها بالخطاب الخارجي، فشل النظام العربي قاطبة، على صعيد كل التحديات الحقيقية، التي سيكون الفلاح فيها هو معقد الرجاء للشعوب، ومن بينها الشعب الفلسطيني، ونعني به تحديات التنمية، والديموقراطية، والأمن القومي، والخلافات البينية التي ازادت حدة.
عندما اندلعت ثورة 17 فبراير في ليبيا، انقلب حال النظام في سورية، واستحالت بهجته بـ "الربيع العربي" كابوساً، بفعل التشابه بين نظامي الخطاب "الثوري" الخارجي في البلدين والقبضة الأمنية التي لا تتريث، ولا ترحم، عند ممارسة البطش حتى ضد المعارضين بتهذيب شديد. وبسبب الغباء المستحكم، الذي عُرف به نظام القذافي، لم يكن ثمة عبرة مما حدث في الجارة تونس، وبالتالي، لم يتوقع النظام أن يكون الشعب الليبي قد تأثر واقتنع بجدوى الثورة لتغيير واقعه المُزري. وكان الليبيون يتحينون الفرصة، للرد بقوة على أية ممارسات من النمط الفظ الذي لا يعترف للمجتمع بأي حق، ولا يقيم له أي وزن. وعندما اعتقل في مدينة بنغازي، فتحي تربل، محامي أهالي ضحايا سجن بو سليم، في الخامس عشر من فبراير/شباط 2011، لم يتخيل النظام أن يهب أهالي الضحايا ومناصروهم لتخليص المحامي من سجنه، متأثرين برياح "الربيع العربي". واستخدمت شرطة القذافي، وأجهزة أمنه، العنف الذي احتذاه ومارسه نظام بشار الأسد فيما بعد في درعا، من دون أن يأخذ الحيطة، وإن يقرأ كيف تداعت الأمور في ليبيا. فقد انتقلت الشرارة، من بنغازي إلى الزنتان والبيضاء ويفرن ونالوت، ومع أول قطرة دم، استشرت الثورة في عموم ليبيا التي يتوحد وجدانها ضد النظام المستبد والغريب الأطوار. ولأن النظام العربي لا يتوافق على مبدأ حماية الناس من أفاعيل القتل؛ تُرك الشعب الليبي لكي يلقى مصيره برشقات أسلحة الدمار الشامل، لكن توفر الثروة الهائلة في بلاده جعله في موضع اهتمام بلدان الضفة الشمالية للبحر المتوسط، وكان تدخل حلف "الناتو".
اليوم، وفي غياب استراتيجية عمل قومي عربي، استهانت الولايات المتحدة بالعرب أجمعين، وتولى المتطرفون مهمة التصدي لواقع الإقصاء والاستبداد، وهم ذو منهج أشد قسوة، لكن غياب العمل العربي المستنير والمنصف للإنسان العربي هو الذي أتاح لهم الفرصة، فأصبح خيار الأميركيين أخذ ناصية الإيرانيين حيال الصراع في العراق، بموجب حسبةٍ رأت أن الحاكمين العرب لا يناصرون شعوبهم، في سعيها إلى الحرية، وإنهم، بهزالهم، يتيحون للقوى المتطرفة أن تنمو وإن تتوغل في قطاعات الشباب، وهنا مكمن الداء!