مكارم الأخلاق العسكرية

28 يونيو 2015
+ الخط -
1 ـ حدث ذات يوم من أيام ستينات القرن الماضي، أن دخل إلى مكتب رئيس النيابة العسكرية طبيب غاضب، ليتقدم بشكوى ضد ضابط جيش حديث التخرج، تحرش بابنته على كورنيش العجوزة، ووجّه لها ألفاظاً خادشة للحياء، فأصابها بحالة نفسية سيئة، مطالباً بتقديم الضابط للمحاكمة. وحين جاءت الشابة إلى مكتب النيابة العسكرية، للإدلاء بأقوالها، وصفها سمير فاضل رئيس النيابة قائلاً "كانت المفاجأة أن ملابس البنت هي التي تخدش الحياء العام، وتحرّض على الرذيلة، فقد كاد الميكروجيب أن يكشف عن ملابسها الداخلية من فرط قصره، ناهيك عن الديكولتيه والشابونيز، والغريب أن والدها الطبيب لم يخجل أن يحضرها لتقديم شكواها، وهي بهذا المظهر المخل بالآداب، بل استمر في ثورته ضد هذا الضابط الشاب الذي اعتدى على الفضيلة والكرامة! وعلى الرغم من هذا الموقف المضحك المبكي، فقد تم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الضابط الشاب، مع مراعاة عوامل الإثارة التي كانت وراء تصرفه الأحمق".
بعد عقدين، كان رئيس النيابة العسكرية قد ترقى في سلك القضاء العسكري، بعد أن حصل على رتبة اللواء ودرجة الدكتوراه في القانون، ليكون رئيس المحكمة التي حاكمت قتلة الرئيس أنور السادات في حادث المنصة، وبعد أن أنهى وقائع المحاكمة بالحكم بإعدام بعض المتهمين، وسجن آخرين، وتبرئة بعض آخر في مقدمتهم الشيخ عمر عبد الرحمن، قرر القاضي العسكري سمير فاضل، كما يروي في مذكراته التي نُشرت عام 1993 (كنت قاضيا لحادث المنصة)، أن يرفع تقريراً إلى رئيس الجمهورية، حسني مبارك، ليعرض عليه خلاصة تجربته في معايشة قضايا التطرف الديني، كقضايا الفنية العسكرية وتنظيمات التكفير والهجرة والجهاد، بعد أن لاحظ فشل العقوبات الرادعة التي أصدرها، في إطفاء جذوة التطرف التي ظلت تعود إلى الاشتعال، وهو ما رأى القاضي العسكري خطأ تفسيره بوجود قرارات سياسية خاطئة، لأن سببه الرئيسي "استغلال المتربصين بأمن مصر لانتشار بعض المظاهر المنافية للمبادئ والقيم الإسلامية في المجتمع، ليضربوا على وترها لإثارة جموع الشباب المتدين، واستغلال حماسهم واندفاعهم ويوجهونهم لأعمال العنف".
في تقريره الذي أرفقه القاضي العسكري بحكم إعدام قتلة السادات، اقترح على حسني مبارك خطة وقائية لوضع حد للتطرف الديني، تركز على محاربة الانحراف الأخلاقي الذي اعتبر أن "علاجه سهل ميسور، يمكن أن يتم بضربة واعية، غير مبالية بما يدعيه البعض من ضرورة الإبقاء على مظاهر الانحراف الأخلاقي، حرصا على السياحة والموارد المالية". وكان العلاج السريع، كما اقترحه القاضي العسكري، يتمثل في الخطوات التالية: "تنقية برامج التلفزيون من مظاهر الابتذال والفساد ـ منع إعلانات الملاهي الليلية بصورها العارية من الصحف والمجلات ـ حظر ظهور السيدات بملابس البحر العارية على الشواطئ العامة، وقصر ذلك على شواطئ خاصة محددة ـ الإسراع في مراجعة القوانين الوضعية، لتكون متماشية مع أحكام الشريعة الإسلامية ـ توجيه المؤسسات الثقافية والإعلامية للبعد بالشباب عن مظاهر الابتذال والإثارة وتبصيرهم بحقيقة دينهم"، هكذا بالنص.
بكل فخر، يقول القاضي العسكري، سمير فاضل، أن الرئيس أولى عناية كبيرة لهذه الاقتراحات، حيث عقد لقاءات مع وزير الإعلام وشيخ الأزهر، ليعلن وزير الإعلام بعدها في مؤتمر صحافي عن إجراءات لتنقية برامج التلفزيون من مظاهر الخلاعة والرقص الشرقي والعري والإثارة، وزيادة برامج التوعية الدينية في التلفزيون، قبل أن يضيف بخيبة أمل: "لكن، كعادتنا دائماً، حماس زائد من كل حديث جديد، ثم يتناقص هذا الحماس حتى يتلاشى تماما.. ولذلك، عادت إلى التلفزيون مؤخرا مظاهر الانحلال الخلقي، وكأن كل مسؤول ينتظر حتى يعيد رئيس الجمهورية تذكيره بواجباته، أو ينتظر حدوث كارثة جديدة، حتى يتحرك".
بعد كل هذه السنين، ليس غريباً أبدا، أن تتشابه رؤية القاضي العسكري القديمة مع رؤية نظام عبد الفتاح السيسي الحالية لأسباب التطرف الديني وطريقة معالجته، وأن تتسق الرؤيتان مع مجمل التصور السلطوي لمكارم الاخلاق الذي لا يجد حرجاً في القتل الجماعي والتعذيب والتسامح مع المفسدين والقتلة، في حين تزعجه مظاهر التحرر الشخصية التي يراها انحلالا تجب السيطرة عليه، لإنقاذ المجتمع من الانهيار.
ولعلنا لو تأملنا تطابق رؤية القاضي العسكري مع الرؤية الاجتماعية والدينية لمن حكم عليهم بالإعدام، لما وجدنا ذلك بعيداً عن سعي السيسي، الآن، إلى الهروب من مواجهة أزماته السياسية والاقتصادية، بالحديث الدائم عن ضرورة حماية الأخلاق ودعم القيم، ولجوئه لاستخدام الشعارات الدينية عمال على بطال، بشكل يشبه ما كان يفعله أنصار تيارات الشعارات الإسلامية من قبله، لأن الأقطاب المتشابهة في التسلط وضيق الأفق وكراهية الحرية لا بد أن تتنافر وتتطاحن.
نكمل غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.