إنّها منطقة كورنيش المزرعة في بيروت، حيث يقع مقهى إيليا سيمونيدس الشعبي. منذ المراهقة، كلّما ذهبت إلى مقهى الجندول المقابل، أمرّ من أمام سيمونيدس، وأتمنى لو أستطيع دخوله.
أعلم أنني لو دخلت وطلبت قهوة لما منعني أحد، لكنني لم أفعل ذلك لشعوري باعتداء على خصوصية المكان الذي بدا كنادٍ حصري لمجموعة رجال متقاعدين. أخيراً دخلت، فاستدارت كل الوجوه نحوي. سرت إلى من يبدو عليه يدير المكان، وأخبرته أن هذا المقهى جزء من ذاكرتي وجئت كي أكتب عنه. قال إن الوقت غير مناسب، وعليّ أن آتي في الصباح الباكر وقت جلوس "شريبة الأراكيل" وليس خلال النهار حين يأتي "لعيبة الورق".
في طريقي إلى الخارج، التفتّ حولي وانتبهت إلى أن المكان لم يتغير منذ أكثر من ثلاثين سنة. ليس المكان وحده بقي على حاله، فلقد بدا أن الرواد لم يتغيروا أيضاً. هذا بالطبع خدعة ذهنية، فالمشهد هو الذي لم يتغير وليس أشخاصه. فهؤلاء الأشخاص، على الأرجح، كأنهم ينتظرون سن التقاعد ليبدأوا جلوسهم في سيمونيدس، على كراسي القش والبلاستيك حول طاولات خشبية عتيقة، يدخنون الأراكيل، يلعبون الورق، يرمون النرد، يقرأون الجرائد، يتحدثون بشكل عابر الى جلساء الطاولات القريبة.
يتكرر المشهد طوال أيام الأسبوع إلى أن يأتي نهار الأحد. تلحظ الاختلاف بمجرد المرور على الرصيف بمحاذاة المقهى. تزداد الضوضاء وعدد الحضور وتتنوع سحنهم وأعمارهم. ليست العطلة سبب التغيير فقط، بل هو يوم سباق الخيل الذي جرت العادة، منذ زمن لا نعرف متى بدأ بالضبط، أن يجتمع جمهور السباق ومتتبعوه في مقاهي "الإزاز" (الزجاج) الشعبية، لمتابعة أخبار الخيول والرهانات.
عدت بعد يومين في الصباح الباكر. قيل لي أن أعود في وقت لاحق، لأن الشخص الذي أريد رؤيته يأتي بعد حوالي ساعة. بعد ساعة كنت أمام الباب، اقترب مني الشخص الذي قابلته في المرة الأولى. قال لي إنه لا يعرف شيئاً عن تاريخ المكان. سألته إن كان يعرف ماذا حل بعائلة إيليا سيمونيدس صاحب المقهى الأصلي فأجابني بالنفي، وأن مالك المقهى الحالي اسمه حسين. عدت فسألته إن كان بإمكاني التكلم مع أحد الرواد القدامى علهم يستطيعون إفادتي بشيء، رفض ذلك بشكل قاطع كما رفض أن آخذ صوراً للمكان. لم أكن بحاجة لأكثر من ذلك لأفهم بأن وجودي ليس مرغوباً فيه.
من هو إيليا سيمونيدس؟ اسمه يوحي بأصل يوناني. هل كان عابراً في المدينة، أم أنه أحد أفراد العائلات البيروتية، ذات الأصول اليونانية، التي استقرت غالباً في منطقتي المزرعة والأشرفية؟ هل هو سليل العائلات التي هاجرت إلى لبنان في مطلع القرن الثامن عشر هرباً من مجازر العثمانيين، أم أنه يوناني مصري لاذ ببيروت بعد التأميم أيام حكم جمال عبد الناصر؟ هل شهد بداية الحرب اللبنانية عام 1975، أم أنه هاجر حينها، أم أن أولاده أو أحفاده هم الذين هاجروا؟
أسئلة كثيرة لم أحصل على أجوبة عنها، كما لم أحصل على فنجان القهوة الذي رغبت في تناوله في مقهى سيمونيدس منذ أكثر من ثلاثين سنة.
أعلم أنني لو دخلت وطلبت قهوة لما منعني أحد، لكنني لم أفعل ذلك لشعوري باعتداء على خصوصية المكان الذي بدا كنادٍ حصري لمجموعة رجال متقاعدين. أخيراً دخلت، فاستدارت كل الوجوه نحوي. سرت إلى من يبدو عليه يدير المكان، وأخبرته أن هذا المقهى جزء من ذاكرتي وجئت كي أكتب عنه. قال إن الوقت غير مناسب، وعليّ أن آتي في الصباح الباكر وقت جلوس "شريبة الأراكيل" وليس خلال النهار حين يأتي "لعيبة الورق".
في طريقي إلى الخارج، التفتّ حولي وانتبهت إلى أن المكان لم يتغير منذ أكثر من ثلاثين سنة. ليس المكان وحده بقي على حاله، فلقد بدا أن الرواد لم يتغيروا أيضاً. هذا بالطبع خدعة ذهنية، فالمشهد هو الذي لم يتغير وليس أشخاصه. فهؤلاء الأشخاص، على الأرجح، كأنهم ينتظرون سن التقاعد ليبدأوا جلوسهم في سيمونيدس، على كراسي القش والبلاستيك حول طاولات خشبية عتيقة، يدخنون الأراكيل، يلعبون الورق، يرمون النرد، يقرأون الجرائد، يتحدثون بشكل عابر الى جلساء الطاولات القريبة.
يتكرر المشهد طوال أيام الأسبوع إلى أن يأتي نهار الأحد. تلحظ الاختلاف بمجرد المرور على الرصيف بمحاذاة المقهى. تزداد الضوضاء وعدد الحضور وتتنوع سحنهم وأعمارهم. ليست العطلة سبب التغيير فقط، بل هو يوم سباق الخيل الذي جرت العادة، منذ زمن لا نعرف متى بدأ بالضبط، أن يجتمع جمهور السباق ومتتبعوه في مقاهي "الإزاز" (الزجاج) الشعبية، لمتابعة أخبار الخيول والرهانات.
عدت بعد يومين في الصباح الباكر. قيل لي أن أعود في وقت لاحق، لأن الشخص الذي أريد رؤيته يأتي بعد حوالي ساعة. بعد ساعة كنت أمام الباب، اقترب مني الشخص الذي قابلته في المرة الأولى. قال لي إنه لا يعرف شيئاً عن تاريخ المكان. سألته إن كان يعرف ماذا حل بعائلة إيليا سيمونيدس صاحب المقهى الأصلي فأجابني بالنفي، وأن مالك المقهى الحالي اسمه حسين. عدت فسألته إن كان بإمكاني التكلم مع أحد الرواد القدامى علهم يستطيعون إفادتي بشيء، رفض ذلك بشكل قاطع كما رفض أن آخذ صوراً للمكان. لم أكن بحاجة لأكثر من ذلك لأفهم بأن وجودي ليس مرغوباً فيه.
من هو إيليا سيمونيدس؟ اسمه يوحي بأصل يوناني. هل كان عابراً في المدينة، أم أنه أحد أفراد العائلات البيروتية، ذات الأصول اليونانية، التي استقرت غالباً في منطقتي المزرعة والأشرفية؟ هل هو سليل العائلات التي هاجرت إلى لبنان في مطلع القرن الثامن عشر هرباً من مجازر العثمانيين، أم أنه يوناني مصري لاذ ببيروت بعد التأميم أيام حكم جمال عبد الناصر؟ هل شهد بداية الحرب اللبنانية عام 1975، أم أنه هاجر حينها، أم أن أولاده أو أحفاده هم الذين هاجروا؟
أسئلة كثيرة لم أحصل على أجوبة عنها، كما لم أحصل على فنجان القهوة الذي رغبت في تناوله في مقهى سيمونيدس منذ أكثر من ثلاثين سنة.