شاب من طرابلس، في الثامنة عشرة من عمره تطلق عليه رصاصة في رأسه لأنه جاء إلى مدينة أخرى ليملأ سيارته بالوقود.
أبحث عن عنوان لشاعر هولندي، فأحصل على صور له مع اسرته، ألاحظ صلعته كصلعتي من سنين بعيدة.
إبني يدخل عليّ في غرفة نومي، يستأذن في أخذ آلة حلاقة الشعر الكهربائية، يتذمر لأني لم أنظفها، يتطلع من النافذة المفتوحة على سماء صافية وريح باردة ثم يقول: العاصفة قادمة.
أخبره عن الثلج في القاهرة، يحدق فيّ ولا يعلّق، يمضي لأرجع إلى قراءة ترجمتين مختلفتين لقصيدة الشاعر الياباني تانيكاوا شانتارو: بليونا سنة ضوئية من العزلة.
أعطس ويرشح أنفي،
لعلّ العاصفة قادمة!
*
يا لشبقٍ لا يفتر،
ونارٍ لا تخبو،
وصوتٍ لا يخفت
هيهات، هيهات
يا واقفاً على شطٍ لا بحر له.
لا تعدْ إلى بيتكَ وحيداً،
اخرج من جيبك بحرك،
اتركه يستلقي على سريرك هنيهةً،
أترك مفتاح الباب في قفل الباب،
ستأتي امرأتك عاجلاً أو آجلاً.
*
السماء ليست صحواً اليوم.
الطيور لم تغادر أعشاشها اليوم.
الغناء حامض الطعم اليوم.
النمل لم يخرج من مساكنه اليوم.
لا تقل لي، السماء لا زالت كما هي: فراغ عظيم.
لا تقل لي، الطيور تفقد شهيتها، مثلما تفقد قدرتها على التمييز بين الحَبّ والحصى.
لا تقل لي، الغناء كمنخل الروح، يتبدّل، يشتدّ ويستكين.
لا تقل لي، النمل مرّة بعد مرّة يعقد جلسات مراجعات علنية لأعضائه.
السماء ليست صحواً اليوم.
*
الصراط المستقيم
مسافة تقطعها من سطح مرآتك
إلى الجانب الآخر.
الغيبوبة احتمال.
النسيان احتمال.
الخيبة احتمال
قد تجد قطيع غنمك الشارد.
قد ترى الليل والنهار حارسين لمعبد أوهامك.
قد تجد في كفّك مطر الأرض والسماء.
الصراط المستقيم
طريق في اتجاهٍ واحدٍ فقط.
*
هل تعلم ماذا في الحدّ الفاصل
بين اللون واللون؟
بين النغمة والنغمة؟
بين الروح والروح؟
هل تعلم أيّ عالمٍ
في مخلب النسر؟
في قرني النملة؟
في صهيل الحصان؟
في براعة الحرباء؟
في نهم الجراد؟
هل تعلم؟
*
أحاول كالمدمن على المخدرات عدم البدء بـ: لم، ليس، كي وكلّ أفراد هذه القبيلة
أتكاسلُ في النهوض من سريري، أفكرُ كحكيم بوذي ندم على عزلته في الجبل الموحش:
الحياة أرجوحة في فضاء شاسع، أجزاؤها الصلبة الثابتة كالخطب الرئاسية ونصائح الفقهاء، تجعلك دائماً قريباً من التراب وبقايا البيتزا وإعلانات القنوات الفضائية.
الأجزاء المتحركة هي ما يعطي للأرجوحة وظيفتها: أن تجعلك معلّقاً بين الأرض والسماء، بين القضيب والفرج، بين البئر والساقية، بين العرق والرعشة الخالدة، بين أنت وهي.
هل كان هذا ما يفكر فيه بريخت حين كتب دائرة الطباشير القوقازية؟ هل نجح رافيل في إبعاد فكرة السفاح حين كتب مقطوعته "بوليرو"؟
أهّا! وماذا عن الجاحظ والتوحيدي وموسى شهوات؟
انزل من سريرك مبتهجاً، ثمّة تقدم على كلّ حال.
*
لأن الطيور لا تنزل إلى الأرض إلاّ لتأكل أو تنام، لها أجنحة وتبيض.
البيض بحسب واضعته يختلف حجماً وشكلاً وزخرفة.
البيضة حرّة ومثقلة بالكون.
لأنّ الطيور طليقةٌ في الهواء، بيضها أينما قلّبته له نقطة واحدة صغيرة يرتكز عليها.
البيضة كون حرٌّ لا لبس فيه.
*
جاء في كتاب الفهرست لإبن النديم:
دغفل النسابة هو الحجر بن الحارث الكسائي ودغفل لقب.
أتاه قدامة بن ضرار القريعيّ فنسبه دغفل حتى بلغ أباه الذي ولده فقال: وولد ضرار رجلين أما أحدهم فناسكٌ وأما الآخر فشاعرٌ فأيهما أنت.
فقال: أنا الشاعر السفيه.
*
الراعي لا يحمل معه بيانو
ولا يجلس تحت خيمة ليعزف الكمان!
يحمل في جيب صديريته ألحان الحمادة الحمراء،
حفظها عن ظهر قلبٍ ليلة نام في كاف الجنون.
سمع الصخرة العالية تقول:
اللحن لا يأتي فرادى.
للشيح لحن،
للزعتر لحن،
للطلع المشرئب لحن،
للنعجة لحن، للبوبشير لحن،
للحجر المدور لحن،
للساقية الخاوية لحن،
للصيف، للربيع، للشتاء للخريف ألحانها.
ولي لحني يطلع من بين أصابعي إلى حلق الريح ويتيه في البيداء كما تتيه الرغبة للأنثى، كما تتيه الرائحة للفحل، كما تتيه السماء في ظلمة لا آخر لها، كما تتيه اللذّة البالغة لساقين في الهواء.
*
سآخذ وسادتي إلى شطّ حمامتها،
أُسندُ عليها رأسي ،
وقليلاً، قليلاً،
أدنو،
أغيبُ وأصحو،
أغيبُ وأصحو..
يا لحمامتها!
من أعلى
أراها تسندُ رأسها بيديها،
بشالها الحريري تخفي صدرها،
عيناها (غابتا نخيل)،
بشرتها بلون القرفة وحمامتها تضوع مسكاً وعنبراً.
عليّ أن أكسر السلّمَ وأركض إلى بحيرة لذّتها، أسبح منتصب القامة أو أغرق.
*
الاستماع إلى برامز لا يثير في نفسي شيئاً،
هو كركوب عربة يجرّها حمار ويقودها ولدُ من أعلى القرية.
تمرُّ عيناي الفارغتان على سور الطين المغروس بالصبار،
شجيرات الرتم قبل ازهرارها، حفر اليرابيع المواجهة عكس الريح الغربية،
النسوة الماشيات إلى البئر يركض خلفهن أطفالهم، لا يلتفتن لي،
حتى إعادة حلم ليلة البارحة يأتي بلا ألوان وبلا بلل.
برامز لا أحبه.
كان برامز يكره أخذ الحيطة والحذر،
لذا فهو يكثر من الجمل اللحنية الطويلة،
وكثيرا ما يغادر إلى الهامش
يضع أرضاً كيس البلاغة،
يدفع به إلى عتبة الباب
يفتح الكيس،
يدلق ما فيه
يقفُ يتابعها ببصره
وهي تبتعد إلى آخر الشارع.
لم يعرف أحدٌ أنّ برامز عاشق فاشل!
لم يخبر أحداً من الناس،
"هل كان على شومان أن يصفه بالنسر الصغير؟!"
"هل كان على شومان أن يحاول الإنتحار؟"
"هل كان على كلارا شومان أن تعزف على البيانو تلك الليلة؟"
هذا ما أحسستُ به وأنا أستمع إلى مقطوعته: الرقصة المجرية، رقم 5
عزف أوركسترا زيوريخ بقيادة كريستوف إيشنباخ.
* شاعر من ليبيا