مقتل سليماني يستهدف التنين الصيني أيضاً

13 يناير 2020
المصالح الاقتصادية للصين تقتضي الانحياز للطرف الإيراني (Getty)
+ الخط -

 

فتح اغتيال الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في العاصمة العراقية بغداد الباب لنتائج غير معلومة العواقب في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه، كما يعتبر الاغتيال أحد الشطحات الترامبية التي تستهدف التنين الصيني في المنطقة والذي يزاحم أميركا على الكعكة الخليجية.

فقد أثارت العلاقة بين الصين وإيران الكثير من الاهتمام مؤخَّراً لاسيَّما مع الزيارات المتكرِّرة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لبكين في عام 2019، وكذا التدريبات البحرية الثلاثية بين الصين وروسيا وإيران في مياه الخليج. ووقوف الصين إلى جانب إيران جاء نتيجة البلطجة التي يمارسها ترامب في حربه التجارية التي يودّ من خلالها بتر أحد أذرع التنين الصيني التي تتوغَّل بشكل ناعم في الاقتصاد العالمي.

لقد تمثَّلت استجابة الحكومة الصينية للتصعيد الأميركي الإيراني في الدعوة إلى ضبط النفس، وهذا ما يتوافق مع معارضة الصين لاستخدام القوة في السياسة الدولية وتفضيلها لتقديم المساعدات التنموية كأنجع الحلول للمشاكل السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط التي تقف على كف عفريت.

يصبح استقرار الخليج مهمّاً للغاية في أعين الحكومة الصينية عندما تتحوَّل إيران إلى بيدق في لعبة الشطرنج التي يلعبها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع نظيره الصيني شي جينبينغ، حيث تعدّ الصين أكبر مستورد للنفط والغاز في العالم، كما تصنَّف دول الخليج ضمن فئة الموردين الرئيسيين للصين، وتجب الإشارة أيضاً إلى أنّ النفط هو عنصر أساسي في مبادرة الحزام والطريق، وبالتالي فإنّ أيّ شيء يؤثِّر على قدرة دول الخليج على توريد الطاقة إلى السوق الصيني سيضرّ حتماً الاقتصاد الصيني، وهذا ما يؤدِّي بدوره إلى تآكل شرعية الحزب الشيوعي الصيني وتدهور أدائه.

وعلاوة على مسألة الطاقة الحساسة، تدير الصين أكثر من 123 مليار دولار من الاستثمارات في دول منطقة الشرق الأوسط وتستفيد من العديد من عقود البناء في الخليج منذ سنة 2013، ويوجد عدد كبير من المغتربين الصينيين في الخليج لاسيَّما في الإمارات، وكل هذا يزيد من التكاليف التي ستتحمَّلها الصين في حال نشوب حرب بين طهران وواشنطن على حلبة المنطقة العربية.

لذلك تقتضي المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للصين في المنطقة القيام بالتدخُّل والانحياز للطرف الإيراني بهدف التصدِّي لقرارات إدارة ترامب التي جعلت منطقة الشرق الأوسط أكثر احتراقاً من سواها. وقد لُوحظ إصرار القادة الإيرانيين على الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع الصين كدليل على التزام بكين بإيران، ومحاولة من محاولات طهران لردع المغامرة العسكرية لواشنطن في المنطقة، حيث تدرك إيران دور الصين كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي لانتقاد الإجراءات الأميركية ضدّ إيران.

ومن جهة أخرى، تبحث الصين من جانبها بقلق العمليات السرية الإيرانية المحتملة ضدّ الأصول الأميركية في سورية والعراق وحتى ضدّ إسرائيل، لما لذلك من تأثير على زعزعة استقرار المنطقة الذي يؤثِّر سلباً بدوره على الخطط التوسُّعية لمبادرة الحزام والطريق التي تهدف بالأساس إلى تحويل الصين إلى قوّة دافعة جديدة للاقتصاد العالمي.

ولا تستطيع بكين ردع الولايات المتحدة في المنطقة، وربَّما لا تستطيع أيضاً التخفيف من طموحات إيران، لكنها تستطيع التدخُّل في لعبة التوازن للحفاظ على السير الحسن لاستثماراتها ومشاريعها في المنطقة لكونها شريكاً استراتيجياً مع كل الأطراف.

وتواصل الصين القيام بدور بنَّاء في الحفاظ على السلام والأمن في الشرق الأوسط لحماية مصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى وليس خدمة لمصالح دول المنطقة، فلم تسفر البعثات الصينية إلى الشرق الأوسط حتى الآن عن أيّ نتيجة جوهرية، سواءً فيما يخص الحرب في سورية، أو الصراع في اليمن، أو الحرب الباردة السعودية الإيرانية، أو حتى النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ويجدر بالذكر أنّ التدخُّل الصيني في تلك الملفات الكبيرة يأتي أيضاً لتلبية تطلُّعاتها المتعطِّشة للاستيلاء على مشاريع الاستثمار في إعادة إعمار دول المنطقة التي مزَّقتها الحروب.

في الواقع، تجد الصين نفسها مرغمة على التعايش في كيس مختلط من العلاقات مع الدول التي تتعارض باستمرار مع بعضها البعض، حيث تعتبر السعودية المورِّد الرئيسي للنفط في المنطقة، تليها العراق وسلطنة عمان وتأتي إيران كرابع أكبر مزوِّد للنفط الخام للصين في المنطقة وذلك وفقاً لمرصد التعقيد الاقتصادي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

كما بلغت استثمارات الصين في دول مجلس التعاون الخليجي (السعودية والإمارات والكويت وعمان والبحرين وقطر) 56.3 مليار دولار منذ إطلاق خطة الحزام والطريق سنة 2013، وخلال الفترة نفسها، وجَّهت الشركات الصينية استثمارات بقيمة 13.7 مليار دولار إلى إيران وفقاً لتقرير متعقِّب الاستثمار العالمي الصيني China Global Investment Tracker. كما باعت الصين أسلحة بقيمة 27 مليون دولار لإيران بين عامي 2013 و2018، في حين اشترت السعودية أسلحة صينية بقيمة 125 مليون دولار وفقاً لمعهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام، لذلك يتَّضح حرص الصين الكبير على المساهمة في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة ضماناً لاستمرار سيرورة مصالحها المتعدِّدة وما عدا ذلك لا تمتلك الصين شهية كبيرة للمشاركة المباشرة في العديد من الصراعات التي تعصف بالشرق الأوسط.

لقد ضربت إدارة ترامب عصفورين بحجر واحد باغتيال قاسم سليماني، وأصابت الصين التي ترغب دائماً في استقرار منطقة الشرق الأوسط للحفاظ على استمرار مشاريعها وحماية شحناتها النفطية عبر الخليج الفارسي وكذا الاستفادة من سعر النفط المعتدل نتيجة استقرار الدول المصدِّرة له.

خلاصة القول أنّ إدارة ترامب لا تختلف عن الثعلب في مكره، فقد وضعت خطة شاملة ومحكمة لتضييق الخناق على الصين وتهديد استقرار الدول التي تزوِّدها بالطاقة وإحداث قلاقل في الدول المستضيفة للاستثمارات الصينية، فعلى عكس الاقتصاد الأميركي الذي يقتات على الصراعات، يعتمد الاقتصاد الصيني على الاستقرار في جميع الأسواق حول العالم، وترامب كعادته لا يفوِّت فرصة للدغ الصين من جحر عدم الاستقرار الذي يعرقلها عن الاستمرار في التجارة والاستثمار، وبسبب عدم اليقين الذي يكتنف الصراعات الدولية قد يتلقَّى ترامب صفعة القرن عوضاً عن إبرامه لصفقة القرن.

المساهمون