28 يناير 2024
مقبرة "التحرير"
جواد سليم.. شتّان ما بين قنّاص ينظر إلى نصب الحرية جداراً للإعدام ومن ينظر إليه منصة لإطلاق الحرية.
ربما فاتتك تلك الثنائية، يا جواد، وأنت تقرّر بناء هذا النصب، في ساحة التحرير في بغداد، قبل ما يربو على ستة عقود، فلم تر غير "بسط" المقام، وغفلت عن "كسره"، فجاء بعدك من يكسر المعادلة كلها، ويكسر معها كل حلم عراقي بالحرية. ولعلي أتوسع، فأتساءل: كم مرةً ينبغي اغتيالك، يا جواد سليم، كي تموت حرية العراق؟
حدث الاغتيال الأول، عندما اكتشف جواد أن ثورة تموز 1958 التي ألهمته عمله الفني، تحولت لتصبح ثورة ضد الحرية، مع إعدامها مئات الآلاف من العراقيين، وتحويل العراق إلى معتقل كبير، يرتع فيه العسس والمخبرون وتجار الثورة، فاختار لقلبه أن يتوقف بأزمةٍ قلبية، مطلع ستينيات القرن المنصرم، خصوصًا وأن ساحة الحرية نفسها التي أقام فيها النصب تحولت إلى ساحةٍ لإعداماتٍ عبثية جاءت تحت عنوان "حماية الثورة".
ثم حدث الاغتيال الثاني لجواد سليم مع ثورة "البعث" التي زعمت أنها جاءت لإعادة الأمور إلى نصابها، لكنها لم تكن غير استئنافٍ أشد رعبًا لسابقتها، فجعلت من العراق نصبًا لجمهورية البطش، تحت شعاراتٍ ثوريةٍ وقومية، لم يلمس منها المواطن العراقي غير دمه المسفوح في الشوارع، وكرامته المسحوقة تحت بساطير أشباح الأمن والمخابرات، وشبابه الذي هرم في ساحات الحروب العبثية. وحين عاد أصبح يتسول رذاذ الحياة في "ساحة التحرير".
أما الاغتيال الثالث لجواد، فترافق مع الاحتلال الأميركي للعراق الذي جاء أيضًا تحت مسميات "الحرية"، ليكتشف العراقيون، بعد مضي سنوات، أن هذه "النجدة" لم تكن غير أقبح وجهٍ من أوجه الاستبداد الطائفي والمذهبي، حين أصبح كل تابع طائفي يرى في نفسه "حاكمًا بأمره"، ومفوّضًا من الإله بتنفيذ أي عملية إعدامٍ أو تطهير عرقي، ويرى في العراق معبدًا خاصًّا بأبناء طائفته، أو خيمة لا تتسع لغير أفراد قبيلته.
على هذا النحو، تكرّر اغتيال جواد سليم وحرية العراق، منذ ارتفع نصبه في ساحة التحرير، فلم يعد الرصاص يفارق الساحة، فيما تهوي الهراوات على رؤوس المتظاهرين المطالبين بالحرية، وعلى قلب جواد سليم نفسه الذي استبق كل هذه الأحداث، كما أسلفت، بأن أعلن عن "أزمته" مع عراقٍ امتهن وأد الحرية، مبكرًا، وآثر الرحيل، قبل أن يعرف حتى أن نصبه الذي أراده ملاذًا آمنًا للهاربين من بطش الجلادين، ومنصّةً للانقضاض على المستبدين، ورمزًا لخلاص العراقيين من متواليات القمع التي تتناسل، وتعيد إنتاج هراواتها ومشانقها، مع كل ثورةٍ وانقلابٍ واحتلال، هو النصب نفسه الذي تحوّل إلى رمزٍ لقتل الحرية، وأن ساحة التحرير أصبحت ممتلئةً عن آخرها بجثث من تجرأوا على المطالبة بها.
وها هو يتكرر اغتيال جواد سليم، قبل أيام، مع سقوط سبعة متظاهرين عراقيين، قادهم سوء طالعهم إلى طلب الحرية في عرينها.
كنتُ من المطالبين دومًا بأن يقرأ الجلاد سيرة الضحية، قبل أن يطلق عليها الرصاص، لعله يعدل عن جريمته، غير أني بتّ أدرك عبثية هذا الطلب في العراق، تحديدًا، لأنني على يقين من أن من أجهزوا على متظاهري ساحة التحرير قرأوا جيدًا عظمة نصب الحرية الذي سرد تاريخ العراق وأزمته مع عصور الاستبداد، قديمًا وحديثًا، برموزٍ ونقوش بابلية وآشورية وسومرية، إضافة إلى رواية أحداث ثورات العراق الحديثة. قرأوا ذلك كله بدقة؛ لأنهم كانوا يتقصدون الإجهاز على العراق برمته، وعلى أي طموحٍ بالحرية، قد يبزغ من هذه المنصة مستقبلاً.
وأمام نصب الحرية، تموت الحرية، كآخر مفردةٍ تحوم الآن على قبر جواد سليم، لتشعره أن النصب الذي استهلك منه أثمن نبضات قلبه تحوّل ليصبح عنوانًا لكبت الحرية واغتيالها، وشتان ما بين ساحتين، كانت الأولى ترنو إلى "التحرير"، ثم غدت ساحة لـ"تحرير" الأجساد من أرواحها، ومن أحلامها بحريةٍ عرضها "نصب الحرية".
ربما فاتتك تلك الثنائية، يا جواد، وأنت تقرّر بناء هذا النصب، في ساحة التحرير في بغداد، قبل ما يربو على ستة عقود، فلم تر غير "بسط" المقام، وغفلت عن "كسره"، فجاء بعدك من يكسر المعادلة كلها، ويكسر معها كل حلم عراقي بالحرية. ولعلي أتوسع، فأتساءل: كم مرةً ينبغي اغتيالك، يا جواد سليم، كي تموت حرية العراق؟
حدث الاغتيال الأول، عندما اكتشف جواد أن ثورة تموز 1958 التي ألهمته عمله الفني، تحولت لتصبح ثورة ضد الحرية، مع إعدامها مئات الآلاف من العراقيين، وتحويل العراق إلى معتقل كبير، يرتع فيه العسس والمخبرون وتجار الثورة، فاختار لقلبه أن يتوقف بأزمةٍ قلبية، مطلع ستينيات القرن المنصرم، خصوصًا وأن ساحة الحرية نفسها التي أقام فيها النصب تحولت إلى ساحةٍ لإعداماتٍ عبثية جاءت تحت عنوان "حماية الثورة".
ثم حدث الاغتيال الثاني لجواد سليم مع ثورة "البعث" التي زعمت أنها جاءت لإعادة الأمور إلى نصابها، لكنها لم تكن غير استئنافٍ أشد رعبًا لسابقتها، فجعلت من العراق نصبًا لجمهورية البطش، تحت شعاراتٍ ثوريةٍ وقومية، لم يلمس منها المواطن العراقي غير دمه المسفوح في الشوارع، وكرامته المسحوقة تحت بساطير أشباح الأمن والمخابرات، وشبابه الذي هرم في ساحات الحروب العبثية. وحين عاد أصبح يتسول رذاذ الحياة في "ساحة التحرير".
أما الاغتيال الثالث لجواد، فترافق مع الاحتلال الأميركي للعراق الذي جاء أيضًا تحت مسميات "الحرية"، ليكتشف العراقيون، بعد مضي سنوات، أن هذه "النجدة" لم تكن غير أقبح وجهٍ من أوجه الاستبداد الطائفي والمذهبي، حين أصبح كل تابع طائفي يرى في نفسه "حاكمًا بأمره"، ومفوّضًا من الإله بتنفيذ أي عملية إعدامٍ أو تطهير عرقي، ويرى في العراق معبدًا خاصًّا بأبناء طائفته، أو خيمة لا تتسع لغير أفراد قبيلته.
على هذا النحو، تكرّر اغتيال جواد سليم وحرية العراق، منذ ارتفع نصبه في ساحة التحرير، فلم يعد الرصاص يفارق الساحة، فيما تهوي الهراوات على رؤوس المتظاهرين المطالبين بالحرية، وعلى قلب جواد سليم نفسه الذي استبق كل هذه الأحداث، كما أسلفت، بأن أعلن عن "أزمته" مع عراقٍ امتهن وأد الحرية، مبكرًا، وآثر الرحيل، قبل أن يعرف حتى أن نصبه الذي أراده ملاذًا آمنًا للهاربين من بطش الجلادين، ومنصّةً للانقضاض على المستبدين، ورمزًا لخلاص العراقيين من متواليات القمع التي تتناسل، وتعيد إنتاج هراواتها ومشانقها، مع كل ثورةٍ وانقلابٍ واحتلال، هو النصب نفسه الذي تحوّل إلى رمزٍ لقتل الحرية، وأن ساحة التحرير أصبحت ممتلئةً عن آخرها بجثث من تجرأوا على المطالبة بها.
وها هو يتكرر اغتيال جواد سليم، قبل أيام، مع سقوط سبعة متظاهرين عراقيين، قادهم سوء طالعهم إلى طلب الحرية في عرينها.
كنتُ من المطالبين دومًا بأن يقرأ الجلاد سيرة الضحية، قبل أن يطلق عليها الرصاص، لعله يعدل عن جريمته، غير أني بتّ أدرك عبثية هذا الطلب في العراق، تحديدًا، لأنني على يقين من أن من أجهزوا على متظاهري ساحة التحرير قرأوا جيدًا عظمة نصب الحرية الذي سرد تاريخ العراق وأزمته مع عصور الاستبداد، قديمًا وحديثًا، برموزٍ ونقوش بابلية وآشورية وسومرية، إضافة إلى رواية أحداث ثورات العراق الحديثة. قرأوا ذلك كله بدقة؛ لأنهم كانوا يتقصدون الإجهاز على العراق برمته، وعلى أي طموحٍ بالحرية، قد يبزغ من هذه المنصة مستقبلاً.
وأمام نصب الحرية، تموت الحرية، كآخر مفردةٍ تحوم الآن على قبر جواد سليم، لتشعره أن النصب الذي استهلك منه أثمن نبضات قلبه تحوّل ليصبح عنوانًا لكبت الحرية واغتيالها، وشتان ما بين ساحتين، كانت الأولى ترنو إلى "التحرير"، ثم غدت ساحة لـ"تحرير" الأجساد من أرواحها، ومن أحلامها بحريةٍ عرضها "نصب الحرية".