مقاهي السوريين في أورفا التركية.. كؤوس شاي فراتيّة

17 فبراير 2017
+ الخط -

على مقربة من لوحة رسمت بعناية لجسر ديرالزور المعلق، كتب عليها: "سنعود" بخط أنيق، يجلس شاب وراء الطاولة على مدخل المقهى، وإلى جانبه جهاز موسيقى تنبعث منه أغانٍ عراقية قديمة. عندما تقترب منه لتسأله، يشير إلى شخص خمسيني يجلس إلى طاولة قريبة تحلّق حولها كهول يلعبون الورق، ويتمازحون بلهجة ديرية قاسية.

أبو مالك، صاحب المقهى، بدا متشككًا من دوافع المقابلة معه، وسأل كثيرًا عني وعن الموقع الذي سينشر كلامه وإفادته، لكنه لم يطمئن ولم يتحدث إلا حين تأكد أن محادثه من دير الزور أيضًا. عندها، وكعادة السوريين، خلصنا إلى وجود معارف مشتركين بيننا، تخلى أبو مالك عن توجسه وقبل التحدث معي.

منذ عام ونصف، وصل أبو مالك إلى مدينة أورفا التركية، في زيارة، ورأى أنه من الضروري الانتقال إليها، فـ "الأمور ذاهبة إلى الأسوأ". عاد إلى مدينة الرقة، واستغرق شهرًا كاملًا في تصفية أعماله هناك. فالرجل كان يقيم في مدينة الرقة لمدة عام ونصف، عقب خروجه من حي الشيخ ياسين في مدينة دير الزور مُجبرًا بعد اشتداد القصف والمعارك بين قوات النظام والمعارضة.

يقول أبو مالك: "خيارات الاستثمار ضئيلة هنا، وهي تنحصر في المطاعم أو المقاهي، واستثمار مبانٍ في السكن الشبابي. ولو تسألني عما أحب، فإني أفضّل العمل بتجارة الأدوية والمواد الطبية، لكن القوانين التركية لا تبيح لنا العمل في هذا الميدان".

أبو مالك، كان يعمل كموزع للأدوية، ويملك مستودعًا لها في دير الزور. ومنذ العام 2000 إلى أن وصل أورفا، وافتتح "مقهى النوفرة". لم يكن يعرف مهنة غيرها، فهي، بحسبه، مهنته أولًا، ومربحة جدًا ثانيًا.

وضع أبو مالك معظم مدخراته في استثمار الجديد، فقد كلفه المشروع الجديد ما يقارب 150 ألف ليرة تركية، أي ما يعادل 50 ألف دولار أميركي، في ذلك الوقت. وهو يشكو ارتفاع المصاريف يومًا بعد يوم، ما يجعل الجدوى الاقتصادية للمشروع تتراجع وتقتصر على تأمين احتياجات عائلته المادية في بلد اللجوء، وهو السبب الرئيس لافتتاحه المقهى، "فلن نعود قبل خمس سنوات على الأكيد". العقارات الغالية في تركيا، تفوق قدرة أبو مالك المادية بكثير، وسبق أن حاول استملاك عقار قريب، لكنه عزف عن الموضوع، بعدما عرف أن سعره لا يقل عن 330 ألف دولار أميركي.

قبل عام تقريبًا، كان الشارع الذي يتوسط مدينة أورفا التركية لا يضم سوى محلين سوريين، لكنه اليوم يزدحم باليافطات التي تدل على محال سوريين، من مطاعم ومحال بقالة واتصالات وأجهزة هاتف. أمر يبدو أنه سيزداد مع الوقت، بعدما أيقن عدد كبير من اللاجئين أن عودتهم ستطول.

يدخل مراهقون أتراك إلى المقهى، فيطلب منهم أبو مالك، عن طريق قريبه الشاب الذي يتقن اللغة التركية، أن يذهبوا كونهم صغار السن، بعدما طلبوا أرجيلة. المقاهي التركية لا تقوم باستقبالهم، بحكم القوانين التركية الصارمة التي تمنع الأطفال من التدخين، بينما تبدو المقاهي السورية أكثر تساهلًا في هذا الموضوع.

يزداد عدد الزبائن ممن يرتادون المقهى في المساء، وفي أوقات بث مباريات كرة القدم، فيزيل المقهى الطاولات لإفساح المكان أمام الزبائن. يقول الشاب الذي يعمل على تجهيز الأرجيلة للزبائن: "اضطررنا إلى إغلاق الباب أثناء مباراة برشلونة وريال مدريد، الأخيرة" ويتابع بحكمة رجل كبير: "الناس تريد أن تخفف من الضغوط النفسية".

التفاعل عالٍ بين المشاهدين، ويفيد النادل أن الأمور تتطور أحيانًا إلى العراك والشجار بالأيدي بين عدد من المشجعين، خصوصًا عندما تمتلئ المقهى بالمشاهدين، كما حدث أخيرًا؛ إذ كانت كثافة الزبائن عالية وأمام الزحام في المقهى أغلقنا الباب حتى لا يأتي زبائن آخرون، لكن انفجر بين الزحام شجار بين بعض المشجعين وبصعوبة قمنا باحتواء الموقف، ويتابع "الليالي التي ننقل فيها المباريات تكون ليالي صاخبة، ومتعبة لنا نحن العاملين في المقهى".

رامي الشاب الثلاثيني، زبون المقهى، يقول إن هذا المقهى هو الأقرب إلى نفسه، فهو يشبه "مقاهي ديرالزور قبل الثورة، إنه نسخة حرفية عنها"، ويشير إلى مقهى ديري آخر قريب أقيم في بناء كان خانًا تركيًا سابقًا: "تستطيع أن تلاحظ التناقض بين الناس الذين هم من الدير على الغالب، وبين البناء الذي يبدو غريباً عنا كديريين، هناك تنافر واضح".

أما هذا المقهى، فهو بنظر رامي قريب جدًا من المقاهي في مدينة دير الزور قبل الثورة، كونه قبوًا، إضافة إلى اتساعه ونمط الرسومات على الجدران الداخلية كلها تذكر بمقاهي مدينة دير الزور. كما أن هناك مُمِيزًا آخر لهذا المقهى، هو شعبية شرب الشاي الذي يطغى حضوره على باقي المشروبات. ويعرف عن أبناء منطقة حوض الفرات بالعموم أن الشاي الذي يشربونه حلو جداً، لذلك يستهلك المقهى كميات كبيرة من السكر جراء ذلك، لتضفي عليه الأغاني العراقية القديمة جو معين يرتاح له أبناء دير الزور كمعبر عنهم، يشعرون ضمنه أنهم في ظل ثقافتهم المحلية من عادات وتقاليد مما كانوا يعيشونها في بلدهم قبل اللجوء.

أبو محمد، النازح في أورفا، لا يحبذ الجلوس في المقاهي، فـ"الحديث في السياسة يجيب مشاكل"، ويشير إلى أن "مجتمع الديريين" في أورفا منقسم جدًا، ويسود الشقاق بين العاملين على هامش الثورة السورية، إذ تغيب الثقة بينهم. يعود ذلك إلى محاولات الاختراق التي يقال إن "داعش" تنفذها في أورفا. وسبق أن أجرى الأمن التركي اعتقالات متكررة لأشخاص قيل إنهم من "داعش" أرسلوا لتنفيذ عمليات في المدينة التركية القريبة من الحدود، مستفيدين من الغطاء الاجتماعي الذي يوفره مُجتمع الديريين. أبو محمد يعتقد أن "الجلوس في بيتي، أفضل من ألف مقهى".

الحديث عن مستقبل دير الزور، بعد إخراج "داعش" منها قد يكون أهم حديث في مقاهي أورفا. وبسبب اختلاف وجهات النظر وتشابك العوامل الاقتصادية والعشائرية والسياسية، يصبح الحديث عن ذلك المستقبل "أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش" بحسب أبو محمد.

المساهمون