مقاربات ثقافية للمستقبل

10 نوفمبر 2015
+ الخط -
يذهب بعضنا إلى القول إن نقد "تابوهات" المجتمعات العربية، من تلك التي تعيق نهضتها، وصولاً إلى تحطيمها وتغييرها، لا يجوز أن يجري بطريقة صدامية، بل برفقٍ ولين، وبالتدريج، وعلى طريقة "تدوير الزوايا"؛ ذلك أن الصدام يدفع أنصار التابوهات للاستنفار، فتُلاقى الأفكار الجديدة بتهم مثل "الابتداع" وما شابه، ويتحول الجدل من مناقشة الأفكار الجديدة إلى مناقشة نيات أصحابها.
أما أنصار الصدام الفكري المباشر مع تلك التابوهات، فيرون أن الرفق واللين لا يؤتيان أُكلا، ذلك أن أحداً لن ينتبه، نتيجة ذلك، إلى النقد، وسيمضي من دون أن يثير ضجة ودهشة. فيما الصدام المباشر يدفع بعضاً من الناس للاهتمام به، وربما لتأييده. وهكذا، مرّة بعد مرّة، يزيد أنصار التغيير، ويكون له روافع في الحياة اليومية للمجتمعات.
وما يمكن قوله، هنا، مستعملين المنطق والمشاهدات اليومية في مجتمعاتنا، هو أن الصدام، تماماً كما الرفق واللين وتدوير الزوايا، جميعها لا يؤتي أُكلاً، فمجتمعاتنا تمضي في حياتها أياً كان ما يُطرح فيها، ولا ينال أمر الصدام الذي يمارسه بعض المشتغلين بالفكر سوى نقاش جانبي على هامش الاهتمامات المعيشية الكبرى لدى الناس، وعادة ما يُعالج بالانطباعات والعموميات، في تأكيد على هامشيته قياساً إلى السياق العام للحياة اليومية في مجتمعاتنا. وهكذا، فالحقيقة أنه ليس ثمة مساحة تأثير حقيقية، تتنافس فيها مدرستا الصدام الفكري وتدوير الزوايا، ذلك أنهما، معاً، إنما يفضيان إلى النتيجة نفسها: انعدام الأثر.
لا بد أن هنالك "خطوة أولى" يجب تحقيقها قبل الخلاف على آلية طرح الأفكار الجديدة في مجتمعاتنا: بالصدام أو بغير الصدام. تلك الخطوة الأولى تتمحور حول تغيير اتجاهات الناس في ماهية الموضوعات التي يتابعونها: من السياسة إلى الثقافة (ولكن، بمعناها السلوكي)؛ أي تغيير "حقل التسلية" لديهم، من ملاحقة التطورات السياسية من دون التأثير فيها، إلى متابعة المستجدات الفكرية والنقاش حولها، أو حتى من دون النقاش حولها.
من يا تُرى هو المطالب بإحداث هذا التغيير في انتباه الناس سوى الإعلام؟ الإعلام هو الوسيلة الأساسية لتغيير تلك الاهتمامات، ليس لأنه الذي يكرّس حالياً فكرة أولوية السياسة وحسب، بل لأن الإعلام العربي، أيضاً، صاحب تجربة سابقة في تغليب الثقافة. فحينما ركّزت الفضائيات العربية، في بداياتها، على الفكر والتاريخ، دار جدل المجالس حولهما تحديداً. وحينما استعادت الفضائيات الدور التقليدي للإعلام العربي، متمثلاً بالجدل حول السياسة، استغرق اهتمام الناس تماماً في السياسة.

وإذا كان ثمة حجة لدى الإعلام لتناسي ملفات الثقافة، مفادها توالي الأحداث السياسية الكبرى، منذ مطلع القرن الجديد الحادي والعشرين، وتحديداً منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، مروراً باحتلال العراق وتبعاته "المثيرة"، وصولاً إلى "الربيع العربي" وتبعاته، فإن ما يجب لفت الانتباه إليه هو أن كل مقتضيات السياسة، وقعودنا عن التأثير فيها، إنما تنبع من أصل ثقافي يتجلى في حال المجتمعات العربية.
كان ممكناً للإعلام العربي أن يستغرق في تلك الأحداث السياسية الكبرى. ولكن، من زاوية ثقافية، لكنه لم يفعل ذلك إلا لماماً، واندفعت البرامج الحوارية، فضلاً عن نشرات الأخبار، إلى استضافة السياسيين، عوضاً عن المفكرين، فاستمع الناس إلى شروحات مطوّلة عن نتائج السياسة، من دون أن يسمعوا شرحاً لأسبابها. وهكذا، دار انتباه الناس حول النتائج من دون الأسباب، وكان هذا المشهد الهزلي البائس: اهتمام بما لا يمكن التأثير فيه، متمثلاً في السياسة، وعزوف عمّا يمكن تطويره، وصولاً إلى التأثير في السياسة نفسها، متمثلاً في الثقافة.
لا شك في أن العرب يحتاجون، اليوم، مقاربات جديدة، بل منظوراً جديداً، لمشروع النهوض الحضاري الذي سيظل حلماً أثيراً عند كل عربي، حتى وإن عبّر عنه بمفردات مختلفة، كلٌ بحسب منطلقاته في الحياة، أو بحسب الأيديولوجيا التي يتبناها. وليس معقولاً أن يكون ثمة مقاربات جديدة، لا تأخذ بالاعتبار الهفوات التي اعتورت المقاربات القديمة القائمة على أفكار السياسة وانتظار القائد المخلّص. هكذا يكون على المقاربات الجديدة الطامحة للانطلاق نحو المستقبل، أن تعالج مدى استعداد العرب للنهوض من حيث المبدأ، عبر معالجة سلوكيات الأفراد والجماعات، وقيمهم المحركة والدافعة لهم، وهي، بهذا المعنى، مقاربات ذات طبيعة ثقافية، عميقة، تعالج الجوهر الثقافي، عوضاً عن معالجة المظهر السياسي وحسب.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.