مقابر ترهونة الجماعية... حقيقة قاسية لأهالي المفقودين في ليبيا

04 يوليو 2020
الحرب خلّفت كثيراً من الضحايا (محمود تركية/ فرانس برس)
+ الخط -

دخل العثور على مقابر جماعية، إثر انتهاء المواجهات المسلحة في جنوب طرابلس وما حول العاصمة الليبية، دائرة الاهتمام الدولي بإعلان محكمة الجنايات الدولية البدء في التحقيق فيها، بعد مطالب حكومية ليبية واستنكار دولي واسع، لكنّ الجانب الإنساني فيها ما زال مغيَّباً.

وعُثر في مدينة ترهونة، جنوب شرقي طرابلس، وحدها، على 11 مقبرة جماعية تضمّ رفات عشرات القتلى، بعضهم مدنيون، بحسب بيان لوزارة الخارجية في حكومة الوفاق في منتصف الشهر الماضي. وبالرغم من الاهتمام الدولي بالحادثة، فالتحقيقات الجارية من قبل سلطات حكومة الوفاق لم تكشف لأسرة عبد العزيز أوحيدة، المغيّب منذ سبتمبر/ أيلول 2019 عن مصيره حتى الآن. ويؤكد والد عبد العزيز أنّ مجموعة مسلحة تابعة لمليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، اعتقلته في أثناء مروره بحاجز أمني في ترهونة، فاتصل بوالده ليبلغه بكلمات موجزة عن اعتقاله، وكان ذلك آخر اتصال به، مضيفاً أنّ "أسباب اعتقاله واختفائه ما زالت غير معروفة". وإثر إعلان سلطات البلاد اكتشاف ثماني مقابر في ترهونة، قبل أن يضاف إليها اكتشاف ثلاث مقابر أخرى، هرع سالم، والد عبد العزيز، للبحث والسؤال عن أيّ دليل يقوده إلى معرفة مصير ابنه. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الجثث أغلبها متحلل، وبالرغم من محاولتنا الحصول على دليل من خلال الملابس أو المتعلقات لإثبات أنّ إحداها لابني، لم نتحصل على أيّ نتيجة حتى الآن". وما زال سالم يعيش على أمل أن يكون ابنه حياً، بالرغم من تردده على الإدارات في انتظار الكشف عن نتائج التحاليل المتعلقة بالحمض النووي، ونشرها للتعرف إلى هويات أصحاب الجثث المنتشلة من تلك المقابر.

يتحدث كمال أبو بكر، رئيس الهيئة العامة للبحث والتعرف إلى المفقودين، عن جهود الجهات الرسمية في الكشف عن المفقودين من خلال المقابر الجماعية التي عثر عليها، لكنّه يشير إلى أنّ نتائج البحث ما زالت في بداياتها. ويشرح أبو بكر تلك الجهود في حديثه لـ"العربي الجديد" بأنّها جهود تشير إلى التنسيق بين الجهات المسؤولة في مختلف الوزارات والقائمين على العمل الميداني الذي يتطلب جهداً مبنياً على المعايير والطرق المتعارف عليها دولياً وإنسانياً. ويلفت إلى جملة من الصعوبات أخّرت ظهور النتائج، من بينها إقدام مواطنين وبعض الجهات على فتح المقابر منذ اللحظات الأولى للعثور على الجثامين، وذلك باستخدام أدوات وطرق غير علمية غيبت كثيراً من العناصر اللازمة للعمل، موضحاً أنّ الأمر لا يتوقف عند العثور على مقبرة وبدء استخراج ما فيها، بقدر ما يمرّ بمراحل عدة، من بينها تطويق المنطقة وإعداد خطط وفق المعطيات قبل انتشال الجثث.

ويلفت أبو بكر إلى صعوبات أخرى تتعلق بإقدام مليشيات حفتر على تفخيخ جثث ورميها بين المنازل، ما صعّب عملية نقلها وإرجاء ذلك إلى حين انتهاء الفرق المعنية بنزع الألغام والمفخخات من عملها، كذلك فإنّ بعض الجثث حرقت بالكامل، ولم يبقَ منها سوى الرماد، وهي مهمة أخرى لا تقلّ صعوبة عن مهمات البحث عن المقابر الجماعية. ويتحدث المسؤول عن مشاهد مروعة وصادمة في أثناء البحث عن المقابر، من بينها دفن الجثث في الآبار، أو تجميع عدد من الجثث في حاويات وحرقها.

قاعدة بيانات المفقودين لم تكتمل لأسباب عدة، من بينها استمرار عمليات انتشال الجثث

 

لكنّ محمد الزياني، شقيق أحد المفقودين، يُبرز جانباً آخر في قضية المفقودين، يتعلق بوصول مكالمة من شقيقه المفقود في ترهونة منذ يناير/ كانون الثاني الماضي للحظات قبل أن ينقطع الاتصال به، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنّه بعدما أيقن أنّ شقيقه قتل ضمن من قتلتهم مليشيات حفتر في ترهونة، بسبب معارضتهم لها، اتصل به وأخبره أنّه على قيد الحياة. يضيف أنّ الضجيج الذي سمعه مصاحباً لصوت أخيه يؤكد أنّه في معتقل. ويبدو أنّ مسلحي حفتر نقلوا بعض المختطفين معهم في أثناء انسحابهم من مناطق الحرب في جنوب طرابلس وترهونة، لكنّ الزياني يؤكد أنّ صوت أخيه لا يعكس أنّه في حال جيدة.

قضية شقيق الزياني بعثت الأمل في قلوب كثير من الأسر التي تتجرع مرارة فقد أبنائها، إذ تستعين أم ياسين شحيط بأقارب لها من مدينة أجدابيا للبحث عن ولدها، المختطف من ترهونة هو الآخر منذ يناير الماضي. وتقول أم ياسين لـ"العربي الجديد" إنّها عاينت بعض الجثث التي أُحضرت إلى مركز طرابلس الطبي، وكان ما بقي من ملابس إحدى تلك الجثث يشبه إلى حدّ كبير ملابس ابنها، مضيفة: "قلبي لن يتوقف عن البحث عن الأمل، وسأستمر في السؤال، وحتى بدفع أيّ مبلغ للحصول على أيّ معلومة تقود إلى معرفة مصير ابني في أجدابيا أو غيرها".

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

وسرت شائعات بين أهالي المفقودين عن نقل مليشيات حفتر عشرات المعتقلين في أثناء انسحابها من ترهونة إلى أجدابيا حيث تعسكر هناك حتى اليوم، وهو ما دفع علي زهمول، وهو مواطن من القربولي المجاورة لطرابلس، إلى السفر باتجاه تلك المدينة بحثاً عن مصير ابن شقيقه اليتيم قبل أن تبلغه أسرته بعد سفره بمطابقة نتائج تحاليل إحدى الجثث لعينة من حمضه النووي، ما أكد له مقتله على يد إحدى المليشيات ودفنه في مقبرة جماعية. وطوال أشهر بعد فقدان الاتصال به، لم يبلغ زهمول الجهات الرسمية، بالرغم من تأكده من اعتقاله من قبل مليشيات حفتر، موضحاً أنّه كان يطمح إلى الوصول عبر وساطات إلى ابن شقيقه في سجون مليشيات حفتر، فيما التعامل مع الجهات الرسمية في حكومة الوفاق الخصم العسكري والسياسي لمليشيات حفتر يمكن أن يعرقل هذا المسعى.

ويبدو أنّ امتناع زهمول عن الإبلاغ عن فقدان ابن شقيقه تماثله حالات أخرى، ما صعّب من عملية حصر المفقودين. ويشير أبو بكر إلى أنّ قاعدة البيانات الخاصة بالمفقودين لم تكتمل لأسباب عدة، من بينها استمرار عمليات انتشال الجثث، واكتشاف مقابر جديدة بنحو مستمر، آخرها انتشال جثتين من منطقة عين زاره، عثر عليهما مدفونتين إلى جانب أحد المنازل.

يُشار إلى أن حكومة الوفاق الوطني طلبت رسمياً من الأمم المتحدة مساعدتها بالتحقيق في المقابر الجماعية التي عثر عليها في مدينة ترهونة بعد تحريرها من قبضة مليشيات حفتر، في وقت دعا الاتحاد الأوروبي إلى تحقيق عاجل، وباشرت السلطات الليبية ملاحقة المشتبه بضلوعهم في هذه الجرائم.