الصغار الذين بالكاد عرفوا الشخصيات السياسية، بحسب توجهات أهلهم، باتوا اليوم في سياق مختلف. الكثير من الأهل يصرون على اصطحاب أبنائهم إلى الشارع في لبنان، ليهتف الأطفال: "ثورة، ثورة"، و"يسقط يسقط حكم الأزعر". ويفرح الصغار بترداد كلمة "الأزعر" التي لم تكن جزءاً من يومياتهم كما في الوقت الحالي. والشتائم، وإن كانوا يُمنعون من قولها، باتت ممنوعة بتحفّظ، ما يعني أنّ الخطوط الحمراء ليست حاسمة قط. وإن ردّدوا الشتائم ضمن الشعارات، فلن يوبخوا كما في العادة. هذه المرة، تحميهم "الثورة" من ممنوعات الأهل.
والممنوع يدفع الأطفال إلى التمرّد، رغبة منهم في التجربة. وهذه قضية أخرى. الصغار يسألون عن ميشال عون (الرئيس) وجبران باسيل وآخرين. يقول أحدهم إن عون يجب أن يذهب، لأنه يتحمل مسؤولية كل شيء. الأهل هنا أمام مهمة جديدة، وهي تشكيل وعي حقوقي قبل أن يكون سياسياً. ولن يكون هذا سهلاً في مرحلة انتقالية، ما زال البعض فيها يخرج من إرث سياسي إلى خيار حقوقي، في وقت ما زال فيه آخرون عالقين في أحزابهم، بحثاً عن الأمان أو خوفاً من المجهول، في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان، وإن كان الطاقم السياسي القديم ـ الجديد يتحمل مسؤوليته.
هل يعرف الأطفال معنى كلمة ثورة؟ والثورة هي "تغيير أساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب في دولة ما". والتغيير صلب الموضوع بالنسبة إلى الأطفال، أي الانتقال من واقع إلى آخر. الانتقال من بلد يُصادر حقوق مواطنيه إلى بلد يصونها، وربّما استعادة البحر المسروق لصالح النافذين في البلاد، والحق في الجلوس على العشب في حديقة عامة، إن توافرت، بدلاً من أن يصرخ رجال الأمن في وجه الأطفال، لحماية ما هو طبيعي من أقدامهم، إذ إن الطبيعي، برأيهم، خلق هوة بيننا وبين الطبيعة، وبين حقوقنا.
هنا، نكاد نشعر بأن الجلوس على الأرض تشويه للبلد، وأننا نحن الذين نأكل الذرة المشوية على الكورنيش البحري للمدينة، نؤثّر في المشهد الحضاري، وليس رائحة مياه الصرف الصحي. شاطئ بيروت الرملي ملوّث، والبحر أيضاً. لا يجب أن يتصرّف الأهل مع الثورة أو الانتفاضة، وكأنها مضيعة وقت للأطفال والمستقبل. فلا مستقبل وسط هذا الانهيار.
التاريخ حُجب عن تلاميذ المدارس. يسمعون عن اتفاق الطائف وكأنه جسم غريب لا دخل له بتاريخ لبنان الحديث. قصدت السلطة الحاكمة هذا التعتيم، لإغراق الأجيال في الجهل، واعتياد الأمر الواقع. فلا يكادون يكبرون، حتى تلهيهم الأزمات المعيشية.
إحدى الحافلات المدرسية التي تقلّ التلاميذ منعتهم من الهتاف "ثورة". فَهمنا أن السياسة ممنوعة في المؤسسات التعليمية. لكنّ هذه حقوق، والفرق كبير. وهذا الوعي الذي يجب بناؤه الآن أكثر من أي وقت، هو مفتاح العودة.