مغامرة ثقافية في لندن (1/2)

21 يونيو 2019
+ الخط -
كم نحن بحاجةٍ لفسحاتٍ توفّر لنا قدرًا من الحريّة، نقوم من خلالها بترجمة ما تراكم في داخلنا من مشاعر وأفكار وتجارب إلى محاولاتٍ ملموسةٍ لفهم أنفسنا. وكم نحن بحاجةٍ إلى متنفسٍ جديدٍ نولد مع ما نتعلّمه مجددًّا، ونتعرف إلى أبعاد داخليّةٍ موازيةٍ ضمن الأكوان التي انطوت داخل ذواتنا. قد نستغرب أحيانًا بوحنا بأشياء لم نستغرق التفكير بها في أذهاننا قطّ، أو هكذا ظننا ضمن أماكن نظنّ أنّها الأبعد عن توليد مثل هذه الحالة، وقد نستغرب من حميميّتنا مع نشاطاتٍ قمنا بها للمرة الأولى.

في مغامرتي الأولى في لندن، وفي محاولةٍ لقتل الوحدة وعدم الاعتماد على آخرين في رحلتي هنا، قررت الانضمام لورشة عملٍ تخصّ أمرًا لطالما استهواني، وهو حفر وطباعة الخشب.

شاهدت الكثير من مقاطع الفيديو عنه لكني لم أجرّبه، ولأنّي قد درست الهندسة المعماريّة، كنت شديدة الحماسة لهذه الورشة، التي ستفتح لي باب المجهول فيصبح معلومًا قليلًا، كما أنّني سأنتشي بصنع شيءٍ بيديّ.

"بصمات" هو عنوان الورشة، ذات الساعات الثلاث التي أقامتها الفنانة التشكيليّة السوريّة ديما قاروط في لندن، في الأسبوع الثالث من شهر مارس/آذار، وجاءت جزءًا من فعاليات مهرجان أوان بالتعاون مع المركز العربي البريطاني في ساحة جوف في لندن.

كانت الورشة وسيلةً للعودة إلى الماضي، لاستعادة ذاكرةٍ ربما قد نسيها المشاركون في خضمّ الأحداث المتلاحقة، ساعد على تحقيق هذه الاستعادة أسلوب ديما الهادئ في التحضير للورشة، ابتداءً من تجهيز الأغراض اللازمة حتى طريقة حديثها وتناولها الموضوع.

 ديما ذات الوجه البشوش، فنانةٌ بصريّة سوريّة كنديّة، تمضي وقتها بين سورية وأوروبا وأميركا وكندا، تنسج أعمالها من مختلف أنواع الموادّ، سواء كانت كلماتٍ أو صورًا.

استوحت ديما فكرة هذه الورشة من مشروع "أرواح مسافرة"، مشروعٌ كانت قد بدأته عام 2012 وكان عبارةً عن عرض لمجموعة صور معلّقة تعبّر عن ملمسٍ لموادّ كانت قد التقطتها أثناء سفرها لعدّة مدن، بالإضافة لنصوص تعبّر عن لحظات حياةٍ وأفكار داخليّة لأناس قد مرّوا بمختلف أنواع التجارب، بدءًا من صراعهم مع فقدانهم لمنازلهم، مرورًا باللجوء إلى بلادٍ غريبة، وصولًا إلى رحلة بحثهم عن أنفسهم.

بصمات هو جزءٌ من سلسلة صور لأحجار دمشقيّة قديمة، بدأت ديما بالتقاطها في آخر زيارةٍ لها لدمشق عام 2011، وأرفقتها بنصوص تعبّر عن هويات نساءٍ ونظرتهنّ للوطن والمسكن الّتي تطوّرت عبر الزمن.

بدأت ديما بالترحيب بنا، ومن ثم طلبت منّا أن نقرأ نصوصًا موضوعةً على الطاولات، وسألتنا أن نختار نصًا منها استوقفنا، وعن كلمةٍ تمثّلنا، كلمة أحسسنا بأنها الأقرب إلى قلوبنا. جلسنا حول الطاولات بأسلوب الصندوق المفتوح، وبدأنا بالتعريف عن أسمائنا، ثم إخبار المجموعة بتلك الكلمة، التي تصبح بمثابة عنوانٍ يعرّف عن أنفسنا بدلًا من ألقابٍ ومهنٍ قد تكون عبئًا علينا كبشر. أحسست بصعوبة التعريف عن نفسي بدون ألقابٍ أو مهن. ولكنها كانت محاولةً جديرةً بالاهتمام. تلى ذلك تهيئتنا لاسترجاع الذكريات، إذ طلبت ديما منا البدء بقراءة الكتيّب الصغير الذي وضعته أمام كل منّا، الذي بدأته بنصّين؛ الأول نصٌّ يدعى "أمل" يبثّ أشعة تفاؤلٍ يستمدها من عظمة أناس تحدّوا ظروفًا قاهرة وأثبتوا قوتهم على البقاء. أما الآخر فهو نصٌّ حزين، يحكي قصّة كلّ سوريٍّ حصل على مجموعة أوراقٍ تؤهله للذهاب إلى أي مكانٍ ولكن حرمته من العودة إلى دمشق، قصّة "السجين".

 

في هذه الورشة، اعتمدت ديما على تلقيننا مبادئ تقنية الحفر والطباعة، التي تهدف إلى مضاعفة الصورة أو النص بالضغط على الورق أو أيّ سطحٍ آخر. فتبدأ تلك العملية بالرسم على الخشب أو الورق أو أيّ مادةٍ صلبة، ثم الحفر عليها بحيث تكون خطوط الرسم نافرةً تمثل القسم الذي نودّ الحفاظ عليه، وتفريغ ما لا نريد تأكيد وجوده وتلوين القسم النافر في ما بعد. ظهرت هذه التقنية مع بداية الحضارات السومريّة، قرابة 4000 سنة قبل الميلاد، أما اقتران الحفر والطباعة فقد استعمل كأوّل مرّةٍ على الحرير ومن ثم على الورق في الصين.

استعملت ديما لتعليمنا مادة اللينوليوم أو المشمّع، لأنها مادّة سهلة الحفر لا تستغرق الوقت الطويل الذي يستغرقه حفر الخشب، كما لا يحتاج الحفر إلى اعتماد اتجاهٍ واحدٍ كما في الخشب، لأنّ المشمع مادّة غير حبيبيّة. بعد حفرنا قطعة المشمّع، قمنا بدهنها من ثم طباعتها على ورقة واختبار تشكيلاتٍ لتكويناتٍ مختلفة.

قامت قاروط بشرح تمرينين لتوليد الأفكار في رأسنا، حتى نختار الشكل الذي نودّ حفره، من خلالهما تحدّت حكمنا المسبق لأنفسنا في ما إذا كنا قادرين على الطباعة والحفر أو لا. وعوضًا عن ذلك، طلبت أن نسأل أنفسنا في التمرين الأول: "هل يمكن لمدينةٍ ما أن تغيّرنا؟"، و"هل يمكن لمدينةٍ أن تسافر معنا؟" و"هل يمكن لمدينةٍ أن تترك بصماتها على أرواحنا؟"، أما في الثاني: "أيوجد مكانٌ نعود إليه دائمًا في ذاكرتنا؟"، و"هل نستطيع تذكّر مكانٍ شعرنا فيه بالأمان والدفء والسعادة والراحة؟"، و"هل نستطيع تذكّر مكانٍ سمح لنا بأن نكون أفضل نسخةٍ عن أنفسنا؟"، و"هل هناك مدينةٌ شاركت بخلق الشخص الذي يعيش في جسدنا حاليًّا؟"، و"هل هناك مدينةٌ شاركت في ترك الأثر الذي سنتركه في هذا العالم؟"، وآخرها "هل نستطيع استرجاع ذاكرةٍ حيّة، أو شعورٍ حصل في ذلك المكان أو المدينة؟". أفسحت الوقت أمامنا للتفكير في هذه الأسئلة، ومن ثم مناقشتها مع المشارك المجاور.

لا أخفيكم سرًّا أنها أسئلةٌ موجعة، فهي تضطرنا إلى العودة إلى الوراء كثيرًا، والبحث بين تجاربنا المبعثرة هنا وهناك في عقولنا للتفكير في تفاصيل قد تبدو بسيطةً لشخصٍ مستقرٍّ نسبيًّا، ولكنّها أسئلةٌ تثير القلاقل في نفس شخصٍ يعاني تجربة الاندماج في بلدٍ جديد، ويحارب الغربة ومشاعر الوحدة.

أجاب كل منا بطريقته عن الأسئلة، وبناءً على الأسئلة السابقة طلبت الفنانة قاروط منا أن نحدّد عنصرًا أو شيئًا في تلك المدينة، يترك شعورًا إيجابيًّا داخلنا، له مكانةٌ في قلوبنا، وكان هذا الشيء هو ما علينا رسمه سريعًا وحفره وطباعته لاحقًا.

رسم كلٌّ منّا ما أشعره بهدوءٍ وسلامٍ داخليٍّ من مكانٍ ما، تراوح بين وردة الياسمين، وورقة شجر العنب والمانديلا الهندية بالإضافة إلى نقوشٍ تراثيّة، ورمز مدينة إشبيلية الإسبانية وقوس منطقة الديفانس الباريسية. حاولنا استرجاع ذاكراتنا البصريّة لرسم تلك العناصر عدة مرات، قبل تبسيطها إلى الشكل النهائي الذي سننقله على مادة اللينوليوم.

قمنا بتحديد المناطق النافرة والمحفورة على الرسم المبسّط، ومن ثم نقلنا صورةً معاكسةً له على قطعةٍ مستطيلةٍ متوسطة الحجم من المشمّع باستخدام أقلام فحم. كانت لحظةً رائعةً بالنسبة إليّ أن أتعلم مبادئ تلك العملية التي شاهدت عدة فيديوهاتٍ لها، باستعمال أقلام الفحم بعد تلك المدة الطويلة. بعد انتهائنا، وزعت علينا علبًا تحتوي عدّة الحفر، مع تعليماتٍ صارمةٍ مكتوبةٍ ومحكيّةٍ عن كيفية استخدامها، وكيفيّة تموضع اليدين عند استخدامها، بسبب حدّة تلك الأدوات، مع مراعاة أن تتراوح زاوية الحفر بين 15 - 30 درجة مع سطح العمل لتسهيل حفر المشمّعة.



بعد انتهائنا، كانت بانتظارنا أربع قطعٍ لتوزيع الألوان، تحلّقنا حولها واستمعنا للشرح حول مدّ اللون باستخدام أسطوانة الدهن، وطلبت منّا دهن القطعة المحفورة باللون الذي نريد (أسود - أخضر - برتقالي - زهريّ) وتعليق النتيجة على الحائط، بعدها وزّعت علينا ثلاث أوراق مقوّاة وطلبت منا خلق تشكيلاتٍ من هذه العناصر وطباعتها بألوان مختلفة كما نريد على هذه الأوراق، كنا كخلية نحلٍ منهمكين بالعمل وسعداء بما ينتج عن أيدينا مهما كانت النتيجة.

 بعد الانتهاء من تطبيق تقنيّة الطباعة بالضغط، التي ضغطنا فيها الأوراق على قطعة المشمّع، علّمتنا كيف نذيّل لوحاتنا بتوقيعٍ يضفي أصالةً لها. كما دعتنا للاشتراك بلوحةٍ جماعيّةٍ نخلق فيها تشكيلًا جماعيًّا من كافة الطبعات، تكون بمثابة ذكرى لهذه الورشة. طلبت منا أن نقدم إحدى الأوراق الثلاث لتكون جزءًا من ذاكرة هذه الورشة، وربما جزء من معرضٍ مستقبليٍّ. فكرت كم هو صعبٌّ أن أتخلى عن أحد أبنائي بُعيد ولادته مباشرة، لوحاتي هذه هي نتاج مغامرتي الأولى، التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بها.

 يذكر أن مهرجان أوان، وهو اختصار في اللغة الإنكليزية لـ"الفنانات العربيّات الآن"، هو مهرجانٌ يُعنى بعرض أعمال الفنانات العربيّات المعاصرات في المملكة المتحدة، وفي أوروبا وغيرها من دول العالم، بدأ عام 2014 بكونه منصةً تعرض الأعمال المهمّشة لهؤلاء الفنانات، وتخلق صلة وصلٍ بينهن والجمهور تسمح بالاطلاع والاحتفاء والتشبيك لفرصٍ جديدة.

 

8ABCAC01-1245-48ED-ABFE-223407FDAB16
هدى فنصة

مهندسة معمارية سورية. حاصلة على ماجستير في العلوم، اختصاص البناء والتصميم العمراني في التنمية من "وحدة تخطيط التنمية" في كلية لندن الجامعية UCL، بالإضافة إلى درجة الماجستير التأهيلي في هندسة المدن، تنمية المدن المستدامة من سورية وفرنسا.

مدونات أخرى