تعب الطالب الجامعي ربيع من كثرة التنقل بين طوابق مبنى وزارة التربية والتعليم في العاصمة اللبنانية بيروت. يحاول الشاب كالعديد من خريجي الجامعات، معادلة شهادته ليتمكّن من تقديم طلبات الهجرة خارج لبنان. يلتقي هؤلاء جميعاً أمام أحد المكاتب، ويتبادلون الحديث عن صعوبة إجراء المعاملات الرسمية "في متاهة من الممرات الضيقة التي تؤدي إلى مكاتب أضيق، وفي ظل بيروقراطية شديدة".
يتحدث الطلاب المجتمعون عن غياب لافتات الإرشاد، وتعطل أزرار المصاعد، بالإضافة إلى غياب بعض الموظفين عن مكاتبهم. يتساءل أحدهم عن صعوبة إجراء أشخاص معوقين هذه المعاملات، فيجمعون على أنّ هذا "مستحيل".
يكثر في أخبار الوزارات والمديريات العامة في لبنان الحديث عن إطلاق سياسات ومناهج وآليات خاصة بدمج الأشخاص المعوقين. إلاّ أنّ زيارة وزارات معنية مباشرة كالصحة، والتربية، والعمل، والداخلية، والشوؤن الاجتماعية تُظهر الغياب الكلي للدمج. في المقابل، تتفوّق مؤسسات القطاع الخاص ذات الاستخدام العام (مراكز التسوّق، المؤسسات الرياضية، وغيرها)، على المؤسسات الرسمية في الدمج.
بداية لا بد من تحديد معايير الدمج التي تؤهل المرافق العامة لاستقبال الأشخاص المعوقين التي يلحظها القانون رقم 220 الصادر عام 2000، والذي تشكو المؤسسات المعنية من عدم إصدار المراسيم التطبيقية الخاصة به رغم مرور 15 عاماً على إقراره. وبعد سلسلة من تحركات اتحاد المقعدين اللبنانيين المطلبية أقرّ مرسوم جزئي خاص بـ"تأهيل المباني ذات الملكية الخاصة والعامة المخصصة للاستخدام العام لمعايير هندسية محددة لدمج الأشخاص المعوقين في المجتمع". هي جزئية صغيرة من سلسلة مطالب يحملها الاتحاد ويطالب الحكومة اللبنانية بتنفيذها.
يشرح مستشار الاتحاد، ومهندس التنظيم المدني المختص في شؤون البيئة الدامجة، بشار عبد الصمد، لـ"العربي الجديد"، المعايير الهندسية المطلوبة، والتي تشمل تجهيز المرافق العامة والخاصة ذات الاستخدام العام بالبنى التحتية، وتدريب الموظفين. فيتم تزويد كافة أقسام المرفق، من موقف السيارات إلى المكاتب مروراً بالمدخل والمصعد والحمامات، بوسائل تسهّل تنقّل الأشخاص المعوقين بمختلف أنواع إعاقاتهم، من الحركية والحسية للاستفادة من كافة خدمات المؤسسات.
على صعيد طاقم العمل، يجب أن يكون الموظف في مكتبه وموظف الاستقبال مؤهلاً للتعامل مع الأشخاص المعوقين إن كان من خلال تقديم الإرشادات أو المساعدة الجسدية، و"من دون منّة أو إظهار شفقة، لأنّ الشخص المعوّق لديه الحقوق والواجبات نفسها كأي مواطن عادي". ويُرجع عبد الصمد هذا الشعور الذي يتكوّن لدى الموظف أو أي مواطن عادي تجاه الشخص المعوق بـ"ضعف الثقافة العامة التي تؤهل المجتمع لتقبّل الشخص المعوق كإنسان عادي يحتاج للمساعدة وليس الشفقة".
اقرأ أيضاً ذوو الاحتياجات الخاصة في لبنان: ممنوعون من العمل والدراسة
تبدأ عملية الدمج من موقف السيارات الذي يجب أن يتضمن مساحة خاصة للأشخاص المعوقين محددة بإشارات واضحة، وموجودة في أقرب نقطة إلى المدخل، وضرورة منع الوقوف فيها لغير الأشخاص المعوقين. ثم تأمين انتقال الأشخاص من الموقف إلى المدخل من خلال منحدرات بسيطة تسمح لمستخدم الكرسي المتحرك بالوصول إلى المدخل. وتزويد الأدراج بـ"درابزين" أو قضبان حديدية. ووضع درج كهربائي صغير (من درجتين أو ثلاثة) لتسهيل دخول الأشخاص. وعلى المدخل يمكن تزويد الأرض بإشارات نافرة قليلاً لإرشاد الأشخاص المكفوفين إلى الأقسام المختلفة في المبنى.
كما يجب أن يراعي المشرفون على بناء هذه المرافق تخفيض ارتفاع ركن الاستعلامات، ليتسنى لمستخدم الكرسي المتحرك الاستعلام من الموظفين. وداخل المبنى يجب أن يستمر نشر العلامات النافرة على الأرض وتسهيل فتح الأبواب والتنقل بين الممرات بما يسمح بالتنقل.
لا دمج في الوزرات
يحتاج الأشخاص المعوقون إلى زيارة عدد من المؤسسات الرسمية بشكل متكرر لمتابعة معاملاتهم، لكن غياب معظم أدوات الدمج الهندسية يُصعّب عليهم هذه الزيارات.
في وزارة الصحة يتسابق المواطنون نحو المصعدين المزدحمين لحجز دور للصعود إلى طبقات المبنى القديم، ولولا استثناء شفهي يتداوله مختلف الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة، لاضطرّ الأشخاص المعوقون إلى الانتظار كباقي المواطنين. يسمح هذا الاستثناء لهم، مع الزوار من كبار الموظفين والإعلاميين، باستخدام "مصعد معالي الوزير" الموجود في مدخل جانبي للوزارة. لكن الطريق إلى هذا المصعد تمر من خلال موقف السيارات المزدحم دوماً، ولا تتوفر أي مساحات بين السيارات لمرور شخص على كرسي متحرك أو شخص مكفوف مثلاً. ويتميّز المدخل باتساعه وسهولة الوصول إلى المصعد فيه، كما تساعد ممرات الطوابق الواسعة في التجوّل (المساحات في المباني القديمة أوسع من تلك الحديثة في لبنان)، لكن الحمامات غير مجهّزة بوسائل مساعدة.
تقع وزارة الشؤون الاجتماعية في مبنى مجاور لوزارة الصحة، مؤهل بمنحنى خاص للأشخاص المعوقين بما يسمح لهم بالدخول بطريقة مريحة. لكنّ المصعد الصغير لا يساعد مستخدمي الكراسي المتحركة في الصعود إليه بيُسر. ويتشارك المبنى خاصية القِدم مع مبنى وزارة الصحة، فيسهل التنقل بين أقسامه.
أما وزارة التربية والتعليم، التي اكتمل بناؤها قبل نحو عشرة أعوام، فتشكل نموذجاً معاكساً من حيث المساحة وقدرة تجول الأشخاص المعوقين فيها. لا يتضمن موقف المبنى الضخم مكاناً خاصاً لسيارات الأشخاص المعوقين وإن تم بناء منحنى خاص بمستخدمي الكراسي المتحركة ليتمكنوا من الدخول إلى المبنى. يشير المهندس عبد الصمد إلى "عدم استيفاء المنحدرات المبنية لشروط الدمج، فهي غالباً ما تكون بزاوية حادة تمنع الشخص المعوق من الصعود عبرها". في الداخل ممرات ضيقة تمنع الشخص المعوق من مراجعة مختلف المكاتب في المبنى. وتخلو الحمامات من أي وسيلة مساعدة.
كذلك الحال في مبنى وزارة العمل، حيث تغيب معظم الإنشاءات المساعِدة في عملية الدمج.
وفي وزارة الداخلية والبلديات والدوائر التابعة لها كدائرة السجل العدلي في منطقة فرن الشباك، لا يمكن لأي شخص معوق أن يدخل إلى الغرفة المخصصة عبر الممر الضيق والمليء بالعوائق. كما ترتفع مكاتب الموظفين متراً ونصف متر عن الأرض. وبذلك يستحصل الشخص المعوق على توكيل من المختار لأحد أقربائه كي ينجز المعاملة بدلاً منه. وتبلغ كلفة التوكيل نحو ستة دولارات أميركية.
ويشهد عدد من مراكز قوى الأمن الداخلي، في المقابل، عملية تطوير للمباني. وقد انتهى قبل أشهر تأهيل ثكنة حبيش في منطقة رأس بيروت كـ"مركز شرطة نموذجي" بتمويل من مؤسسات أجنبية. فتمت إضافة مصعد خاص لمستخدمي الكراسي المتحركة عند درج الدخول إلى المبنى، كما تنتشر القضبان الحديدية التي تساعد الأشخاص المعوقين في التنقل داخل أرجائه. وتشكل هذه التجربة اليتيمة، حتى الآن، منطلقاً مقبولاً للشكل الذي يجب أن تكون عليه المؤسسات الرسمية في لبنان.
كذلك، ينتشر في أرجاء العاصمة بيروت وضواحيها القريبة عدد من المراكز التجارية الكبيرة التي تساهم في دمج الأشخاص المعوقين من خلال تجهيز المباني بالمواقف الخاصة، والممرات الواسعة، والمصاعد الكبيرة. كما يتعامل الموظفون بصورة لائقة مع الأشخاص المعوقين ويعرضون مساعدتهم. يشير عبد الصمد، في هذا الإطار، إلى "إدراك أصحاب رؤوس الأموال للفائدة المادية والمعنوية التي يعود بها دمج الأشخاص المعوقين في مؤسساتهم، فتم إدراج بند الدمج خلال اختيار الموظفين وأثناء بناء هذه المرافق".
طبّقوا القانون
من جهة أخرى، يلحظ القانون توظيف الأشخاص المعوقين في كلّ مؤسسة بما نسبته 3 في المائة من عدد الموظفين الإجمالي، وهي كوتا تؤمّن عملية دمج بالحد الأدنى لهؤلاء الأشخاص. إلّا أن غياب المراسيم التطبيقية للقانون يؤدي إلى "ضعف شديد بالالتزام بهذه النسبة"، بحسب عبد الصمد. وتسجل مؤسسات القطاع الخاص أسبقية على القطاع العام في هذا المجال أيضاً. وفي ظل غياب الثقافة العامة التي تسمح للمواطنين بتقبّل الأشخاص المعوقين ودمجهم في المجتمع، تبدو مطالب الدمج في المؤسسات العامة بدائية أمام هدف تحقيق الدمج الشامل في المجتمع.
اقرأ أيضاً: أطفال متوحّدون.. محاولة لدمجهم في مجتمع يجهل معاناتهم