معضلة الحد الأدنى للأجور في مصر

03 ابريل 2019
التضخم لا يتماشى مع زيادات الأجور (فرانس برس)
+ الخط -
أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأسبوع الماضي عن تطبيق حزمة من الإجراءات الاجتماعية، التي تدشن، بحسب ما جاء في وسائل الإعلام المصرية، "لعقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع المصري، وتعكس تقدير الرئيس لحجم التضحيات التي تحملها شعب مصر العظيم". 

وكان على رأس هذه الإجراءات رفع الحد الأدنى لأجور العاملين المدنيين بالدولة من 1200 جنيه (حوالي 69 دولارا) إلى 2000 جنيه (حوالي 115 دولارا) شهرياً.

ومثّل الحد الأدنى للأجر الشهري في مصر واحدا من المكاسب النادرة الباقية من ثورة يناير 2011، بعد أن حدث ما حدث في يونيو 2013، لتتبخر أية آمال في حرية أو ديمقراطية أو عدالة اجتماعية، ولتنحصر الأماني في لقمة العيش والأمن من بطش النظام.

ومع تردي الأوضاع الاقتصادية لملايين المصريين، بفعل الإجراءات التقشفية التي فرضها صندوق النقد الدولي اعتباراً من عام 2016، حتى تتمكن مصر من الحصول على قرض بمبلغ 12 مليار دولار، انخفضت قيمة الحد الأدنى للأجور، بصورة أخلت كثيراً بالغرض الأساسي من وضعه، الأمر الذي تسبب في انخفاض مستوى معيشة الملايين من العاملين الحكوميين في مصر.

وفي يونيو / حزيران من عام 2011، أعلن الدكتور سمير رضوان، وزير مالية احدى حكومات ما بعد الثورة، رفع الحد الأدنى للأجور إلى 700 جنيه في الشهر، كانت وقتها تساوي ما يقرب من 118 دولاراً، ولم يهتم أحد بمعرفة ما كان عليه الحد الأدنى قبل ذلك الرفع!

وفي أكتوبر / تشرين الأول من عام 2013، وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي المكتوم بعد فض اعتصام رابعة الدموي، أعلن الدكتور حازم الببلاوي، رئيس الحكومة المصرية المؤقتة، رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه، كانت تعادل حوالي 171 دولاراً وقتها، انخفضت إلى 69 دولاراً بعد تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016، وهو ما تم تغييره الأسبوع الماضي.

لكن حتى بعد التغيير، ما زالت مصر تحتل المرتبة الأخيرة عربياً، بعد كل من فلسطين المحتلة، والعراق المنهوب، وليبيا المدمرة، والجزائر المأزومة!

ودفعت الحكومة المصرية بأن الحد الأدنى الذي تم إقراره، وإن كان قليلاً، إلا أنه قد وصل تقريباً إلى المستوى الذي كان عليه وقت إقراره لأول مرة بعد الثورة في 2011.

وأوضح البيان الصادر عن وزارة المالية المصرية، أنه "لولا الإصلاح الاقتصادي الكبير، الذي تحمله شعب مصر العظيم، لما كان من الممكن وضع حلول جذرية لمشكلات الاقتصاد المصري المزمنة والصعبة، والتي تراكمت عبر فترات وعقود طويلة دون حلول حقيقية وجذرية".

لكن الحكومة "نسيت" أو "تناست" أن "الإصلاح الاقتصادي الكبير" الذي تحدثت عنه تسبب أيضاً في إحداث خلل كبير في الجانب الآخر في المعادلة وهو تكلفة المعيشة. فبسبب إجراءات الإصلاح الاقتصادي، ارتفع ثمن رغيف العيش بعد رفع نسبة كبيرة من الدعم عنه، كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية التي يمكن الحصول عليها عن طريق ما يعرف بـ "بطاقة التموين" أو من محلات التجزئة المملوكة للقطاع الخاص.

كما ارتفعت أسعار الفاكهة والخضروات بنسب مهولة بعد ارتفاع أسعار كافة أنواع الوقود والمياه والكهرباء والغاز الطبيعي، الأمر الذي أضاع كثيراً من قيمة الحد الأدنى الذي تم إقراره، حيث لم يعد ممكناً شراء ما كان يتم شراؤه به في العام 2011، حتى لو نظرنا إلى المعادل الدولاري وقتها والآن.

ومع الأخذ في الاعتبار تعهد الحكومة المصرية لصندوق النقد الدولي بالإلغاء التام للدعم الحكومي، على كافة أنواع الوقود، باستثناء الغاز المسال، بنهاية العام المالي الحالي في 30 يونيو/ حزيران، وتعهدها بالبدء في تطبيق آلية تسعير الوقود وفقاً للأسعار العالمية هذا العام، يكون من الطبيعي توقع موجة تضخمية جديدة خلال الشهور الثلاثة القادمة، الأمر الذي يطيح بجزءٍ آخر من مكاسب رفع الحد الأدنى للأجور.

قرار الرفع الأخير كان ضرورياً، وبالتأكيد تأخر كثيراً، لكن ليعلم الجميع أنه لا يمكن اعتباره بأي حال هدية من الحكومة أو مكافأة على الصبر على الإجراءات التقشفية التي فرضها صندوق النقد الدولي.

فالدولة التي تتخذ إجراءات لرفع الدعم وتحميل المواطنين تكلفة إصلاح أخطاء اقتصادية على مر عقود، يتعين عليها أن توفر لهم أساليب الحياة الكريمة، التي تمكنهم من مواكبة قفزات الأسعار المستمرة، ولا يحق لها أن تتركهم لتلمس سبل العيش "بمعرفتهم"، وغني عن البيان ما يؤدي إليه ذلك من تزايد معدلات الفساد والجريمة وانهيار الأخلاق لدى الأسر المصرية.

ومن ناحية أخرى، يمثل رفع الحد الأدنى للأجر حلاً مؤقتاً، في توقيتٍ يثير الكثير من الاستفزاز، كونه يسبق استفتاء متوقعاً على تعديلات دستورية تسمح للرئيس الحالي بإكمال عامه العشرين في السلطة.

وما يجعله مؤقتاً هو الطبيعة المتناقصة لقيمته، بعد ما عانته مصر من استمرار لانخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار خلال العقود السبعة الأخيرة، الأمر الذي يفرض ضرورة ايجاد طريقة أخرى لتحديد الحد الأدنى للأجر، بدلاً من الطريقة الحالية، التي تفقد أي معنى أو قيمة بعد عامٍ أو اثنين من بدء تطبيقه.

ومن الحلول التي يمكن اللجوء إليها للحفاظ على مكتسبات وضع حد أدنى للأجر، ما استعانت به دول أخرى سبقتنا في التجربة، عن طريق تحديد الحد الأدنى للأجر بالدولار، حتى لا تتأثر قيمته الحقيقية بانخفاض سعر العملة المحلية مقابل الدولار، خاصةً وأن مصر تستورد ما يقرب من 60% مما تأكل وتلبس وتركب، وأرجو ألا يدفع البعض هنا باعتبارات الكرامة الوطنية، التي لا تنتهك حقيقةً إلا بالتوسع في الاقتراض من الدول الأخرى!

كما يمكن أيضاً وضع الحد الأدنى للأجر، في صورة المبلغ الذي يمكنه شراء سلة معينة من السلع الأساسية، يعاد تقييمها مطلع كل سنة مالية، حتى لا يتمنى المواطن المصري أن يكون مثل "ليبيا أو العراق"، مع كامل حبي واحترامي لهما.

المساهمون