معضلة التزييف في الفنّ

21 ابريل 2015
+ الخط -
من أشهرٍ فقط، وأنا أزور معرضًا مقامًا بمناسبة افتتاح متحف وطني ظلّ ينتظر لعشر سنوات تدشينه، فوجئت بلوحة لأحد الفنّانين الرواد تنضح بغرابتها وابتعادها عمّا أعرفه عنه، إذ كنت قد أقمت له معرضًا شاملًا من فترة وجيزة. اللوحة زيتية لها ثلاث صيغ أو تنويعات أعرف مقتنيها، كما أعرف أنها من بين اللوحات الأكثر طلبًا والأكثر قيمة من بين أعمال الفنان. أدركت حينها أن الزيف لا يطال السوق فقط في سرّيته وانغلاقه، بل يطال أيضًا المتاحف والمعارض المهمّة. قبلها كنت قد شاهدت لدى أحد هواة جمع الأعمال الفنية، لوحة كبيرة للفنان نفسه مرسومة بإيقاعين وطريقتين مختلفتين وبأسلوبين متنافرين، وكانت اللوحة تصرخ في وجهي لصعوبة احتمالها.
كثيرًا ما يجد بعض المقتنين أنفسهم ضحية شراء لوحة أو عمل فني مزيّف. وإذا كانت ممارسة تزييف الأعمال الفنية مرتبطة بالقيمة الجمالية والتداولية للعمل، فإنها تظلّ ممارسة هامشية تطال بالأساس الأعمال الكلاسيكية، وبالأخص الفنّانين الذين "يسهل" تقليدهم، وهي ممارسة متداولة في الغرب، لها محترفوها ومسالكها الوعرة. وصار لها أيضًا تاريخها في العالم العربي منذ بدأ سوق الفنّ يعرف بعض الانتعاش في العقود الأخيرة، بحيث صارت الظاهرة تشكّل سوقًا موازية يعتاش منها المزيّفون، وترضي جشع الراغبين في اقتناء لوحات صعبة الاقتناء بأثمان مقبولة.
إذا كان التزييف الفنّي عمل محاكاة، فقد ظلّ دومًا يعتبر كذلك، ولم يصبح له طابع قانوني إلا في الأزمنة الحديثة. صحيحٌ أن طلبة الفنون الجميلة، ولأغراض تربوية وتعليمية، يقضون أولى سنوات دراستهم في محاكاة الفنانين الكبار، بيد أن التزييف يتعلّق بما هو أدقّ من ذلك؛ إنه المحاكاة الجزئية أو الكلية لأسلوب فنّان ما وتوقيعها باسمه. وبهذا ينسحب "الفنان" صاحب العمل المنجز ليرتدي ثوب الفنّان الذي تحمل اللوحة اسمه.
يبدأ التزييف بالاستيحاء الجزئي، حين يسطو فنّان على تقنية أو شخصية من دون أي تأويل شخصي ومن دون قصد إبداعي.
إننا هنا أمام عملية يصعب الحسم فيها، إذ إن الفنّ عالمٌ مفتوح على التأويل وإعادة الصياغة. كما أن العديد من الفنّانين، يمارسون إعادة خلق عمل فني بمقاصد جديدة، وفقًا لاستراتيجية لها مراميها وسياقها. ويكون التوقيع هنا تحمّلًا للمسؤولية الأخلاقية والذاتية للعمل، بحيث يكون على الناقد ومؤرخ الفنّ تقويم عملية الاستيحاء الجزئي أو الكلي ليمنح اللوحة صدقيّتها.
أما التزييف الفنّي في معناه الحصري، أي كمحاكاة عمل فنّان أو نسبة عمل إليه، فإنه يكون عملية مغامرة، يصاحب فيها المزيّف الفنان، بهذا القدر أو ذاك من الدقّة والتماهي. والحقيقة أن المزيّف هنا، حين يستطيع أن يستعيد بشكل دقيق العملية الإبداعية للفنان، إما خلقًا أو محاكاة، بموادها ولمستها، وبحالاتها من هوس أو جنون أو حماس أو جموح، فإنه يغدو ظلّ الفنان ونظيره. بهذا المعنى يكون المزيّف الناجح من أكثر الناس فهمًا للفنّان، بحيث إنه لا يتقمّص فقط كيانه، بل يصبح نظيره التامّ. وكلّما كانت درجة النجاح أكبر، دامت خدعة العمل المزيّف أطول.
المزيّف الماهر ينفي أصلية العمل الفنّي وحقيقته الأحادية. إنه يصبح قادرًا على صناعة المِثْل والشبيه، مدمرًا بذلك ميتافيزيقا الأحادية التي يتمتّع بها العمل الفنّي، خاصة في طابعيه المتحفي والتاريخي. لكن هذا المنطلق كثيرًا ما يمتلكه الفنان نفسه بالكثير من الصدقيّة. فنحن نجد العديد من الفنانين يمارسون "التزييف" على أعمالهم نفسها، كأن تقتني لوحة صغيرة (وهذا حدث لي مع فنان كبير) ثم تجد اللوحة نفسها تقريبًا بحذافيرها في حجم كبير ضمن مجموعة فنية معينة. كثيرًا ما يستعمل الفنان أيضًا ما يعرف بالتنويعات العديدة على العمل الواحد، حيث لا يغير من العمل المنطلق (العمل الأساسي) إلا بعض التفاصيل الشكلية واللونية والمادية، التي قد لا ينتبه لها في الغالب إلا الناقد المتفحص، أو كأن يستعين الفنّان في حال "طلبيَّة كبيرة"، بمساعدين يمنحهم الحرية الكاملة في استنساخ أسلوبه (وهو أمر يقوم به بعض الفنانين).
المزيَّف الفنّي إذن، معضلة تبدأ من الفنان نفسه. إنه الزيف الحقيقي إذا ما استعملنا التضاد، مقابل الزيف القانوني الذي يمكن أن يخلق البلبلة في السوق الفنية، وتكون له عواقب على صاحبه. إننا هنا أمام تداولية تمنح للفنان الحرية الكاملة في "تزييف" نفسه، كأن يستعيد عند الطلب، رسم لوحة أو لوحات من مرحلة سابقة تجاوزها من قبل، أو كأن يقوم بتنويعات بعيدة عن الاختلاف، غير أنها لا تمنح للآخر السطو على منتجات الفنّان ونسبتها إليه، لأن ذلك أمرٌ يجعل من هذا التوالد سطوًا على الاسم وعلى الحرية الشخصية التي تحدّثنا عنها.
مع الحركية التداولية، التي تعرفها السوق اليوم، صار المزيّف يطال الأسماء الفنّية العربية التي حظيت في السنوات الأخيرة بقيمة تجارية مهمّة. وهو أمرٌ ليس دومًا بالسلبي، إذ إن إيجابيته تتمثل أيضًا في أنه يستدعي تدعيم الوسائط التي تحدّ منه، باللجوء للخبراء وللنقاد وللعارفين بحياة الفنان وأساليبه ومسيره الفني.
المزيَّف الفني، بالرغم من خطورته وتشويشه على تداول الفنّ، يدعم بشكلٍ أو بآخر حصانة الموروث الفني، ويجعل منه أكثر يقظةً، ويمنح خبراء الفنّ الفرصة لممارسة وجودهم بشكلٍ شفّاف وعلني. إنه يدعو إلى تحصين الممارسة الفنية وتعميق عملية التعرّف إلى أعمال الفنّان، وإصدار الكتب الجامعة التي تؤرّخ لمسيره الفنّي، بل إن ذلك يدعونا، في آخر المطاف، إلى إنشاء معاجم جرْدية معقلنة لفنّانينا الكبار، تقيهم من أن يجعلهم المزيفون يمارسون التشكيل في قبورهم.
المساهمون